الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : أسرية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
125 - رقم الاستشارة : 1576
13/04/2025
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أنا أب مغترب، أكتب إليكم وقلبي يفيض حيرةً وألمًا. غادرت وطني قبل سنوات لأجل لقمة العيش، ولأجل مستقبل أولادي تغربتُ عنهم، لا لأني رغبتُ في البعد، بل لأني بحثت لهم عما هو أفضل، عن تعليمٍ جيد، وعن بيئة مستقرة، وعن أمل لم أجد له مكانًا في بلدي الذي أحب.
لكنني اضطررت، لأسباب تتعلق بمصلحتهم الشخصية والدراسية والاجتماعية، أن أتركهم هناك، في رعاية أقاربي، لأن البلد الذي أعيش فيه لا يساعد على استقرارهم حاليًا.
كنتُ أظن أنني أقدّم تضحيات ستُفهم لاحقًا؛ لكن ما حدث خالف ظني. زوجتي لم تصبر، لم تُقدّر حجم التضحية. صارت تُعاتبني في كل صغيرة وكبيرة، وكأنني تركتهم بإرادتي، وكأنني ارتكبت خيانة. أصبحتُ في نظرها "الهارب"، لا "المجاهد"، وكم يُؤلم أن تُنسى نواياك، وتُفسَّر قراراتك على أنها أنانية!
أنا لا أريد مدحًا، ولا شكراً، لكنِّي أشعر أن ظهري بدأ ينكسر، الضغط في العمل، والبعد عن الأولاد، ونظرات زوجتي الجارحة كلما اتصلت، صارت عبئًا فوق طاقتي.
أشتاق لأولادي كل لحظة؛ لكنِّي صابر. أعمل لأجعلهم في وضعٍ أفضل؛ لكنِّي منهك. لا أريد أن أُخفق؛ لا في دوري كأب، ولا كزوج، ولا كعامل.
دكتورنا الفاضل، هل أخطأت حين قررت البُعد من أجلهم؟
هل التضحيات تُفهم فقط بعد أن ندفع أثمانها الغالية؟
كيف أُخفف عن قلبي؟ كيف أصبر نفسي؟
وهل من سبيل لأجمع بين واجبي تجاه أسرتي وواقعي الذي فرضته الحياة؟
أرجو أن ترشدوني، بارك الله فيكم… فقد بات الصمت يُرهقني، والكلام لا يسمعه أحد.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ومرحبًا بك أخانا الكريم، ونشكرك من أعماق القلب على رسالتك التي تنضحُ صدقًا وحرقةً، ونثمِّن ثقتك الغالية فينا. ونسأل الله العظيم، ربّ العرش الكريم، أن يربط على قلبك، ويجبر كسرك، ويكتب لك أجر صبرك وغربتك، ويقرَّ عينك بأهلك وأولادك، عاجلًا غير آجل، وبعد...
فإن غربتك هذه ليست كلماتٍ تُقال، ولا قصةً تُروى، بل هي صبرُ رجالٍ ونُبلُ آباء، ومواقفُ تُكتَب بالدموع، ولا يعرف ذلك إلا من جرَّب ما جربتَه، وذاق ما ذُقتَه. وإنَّا إذ نقرأ كلماتك، نسمع في سطورها أنينَ قلبٍ ضاق بما حمل، ولم يجد من يُنصت بصدق، فكنتَ كمن يتكلم ولا يُسمَع، ويظمأ ولا يُروَى، ويبذل دون أن يُقدَّر أو يُشكَر.
ولكن ما دامت نيَّتك لله، وتسعى في سبيل تحصيل الرزق، لأداء واجبك بالإنفاق على أسرتك، فثق أن كل تعبك مرصودٌ في سجلِّ السماء، وأن ربك لا يُضيِّع سعي من أخلص له.
زوجتك أيضًا «مغتربة»!
لكن يا أخي الحبيب، قبل الاستطراد، أريد أن أهمس لك بشيء وأرجو أن تتفهمه: كما تحملتَ أنت ألم البُعد ومشقة العمل والغربة، فإن لزوجتك أيضًا وجعًا لا يُرى، واحتياجًا لا يُقال بسهولة، فلنتأمل معًا: امرأة تُركت مع أولادٍ يحتاجون إلى رعاية يومية، تدبيرٍ منزلي، مهام دراسية، وربما مشكلات صحية ونفسية متفرقة...إلخ، تقوم بكل هذا وحيدة، ليس بجوارها من يساندها، أو حتى يشاركها عبء القرار والهَم، ثم يشتدُّ عليها غيابك، ليس فقط في الأمور العملية، بل في حاجتها العاطفية إليك؛ ليس جسديًّا فقط -وإن كانت ضرورة ومن حقها- إلى لمسة حنان، كلمة طمأنينة، عين تحرس، وكتف تستند إليها.
إنها قد لا تُجيد التعبير عن هذا، أو قد تُترجمه بعتابٍ قاسٍ أو بكلماتٍ مؤلمة، لكنها في حقيقتها تئنُّ من حمل ثقيل، ومسؤولية تُنهكها.
فليتك حين تسمع منها ما يُوجع، تستحضر قول الله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ﴾ [النساء: 19]، وقوله سبحانه: ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةًۭ وَرَحْمَةً﴾ [الروم: 21]، وقوله عز وجل: ﴿ولَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ولِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ [البقرة: 228]. فتُحسن الظن، وتلتمس العذر، وتُعيد إليها بعض الدفء الذي فقدته بغيابك، ولو بالكلمة، ولو بالدعاء لها، ولو برسالةٍ صادقة تخبرها أنك تشعر بثقل ما تمر به.
وهيا الآن ننظر في كلِّ جزءٍ من سؤالك، سائلًا الله التوفيق في إجابتك ومساعدتك.
هل أخطأتَ حين قررت البُعد من أجلهم؟
أخي الفاضل؛ بل أنت على خيرٍ عظيم بإذن الله، ما دام قرارك كان مبنيًّا على المصلحة، ووزنت فيه حاجات أسرتك، وسعيت لتوفير حياة كريمة لهم، فذاك يعد جهادًا، وقد تزاحمت الأحاديث الشريفة في فضل ما تقوم به، منها:
مرَّ على النبيِّ ﷺ رجلٌ، فرأى أصحابُه من جلَدِه ونشاطِه، فقالوا: يا رسولَ اللهِ، لو كان هذا في سبيلِ اللهِ؟! فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «إنْ كان خرج يسعى على ولدِه صغارًا فهو في سبيلِ اللهِ، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيلِ اللهِ، وإنْ كان خرج يسعى على نفسِه يعفُّها فهو في سبيلِ اللهِ» [رواه الطبراني]، وفيه دلالة عظيمة على أن العمل لأجل النفقة على الأهل من الجهاد في سبيل الله.
وقال ﷺ: «إنَّ المُسْلِمَ إذا أنْفَقَ علَى أهْلِهِ نَفَقَةً، وهو يَحْتَسِبُها، كانَتْ له صَدَقَةً» [متفق عليه]. أي: إذا نوى بإنفاقه على أهله وجه الله، كُتب له أجر الصدقة.
وقال ﷺ: «إنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بهَا وجْهَ اللَّهِ إلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حتَّى ما تَجْعَلُ في فَمِ امْرَأَتِكَ» [رواه البخاري] و«في فَمِ امرأتك» كناية عن كل ما يُنفقه الرجل على أهله.
وقال ﷺ: «كَفَى بالمَرْءِ إثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ» [رواه مسلم]، يعني أن حبس النفقة عمَّن تجب عليه النفقة يكون إثمًا عظيمًا، فكيف بمن يسعى ويكدَّ لأجلهم؟ وأنت تعبت، وسافرت، وتحمَّلت الغربة والفراق والوحشة لأجلهم.
فلا والله ما أخطأت؛ بل أصبت حين اخترتَ الكدَّ في سبيل راحة أهلك. ولو كان هناك من لا يُقدِّر هذا القرار الآن، فذلك لا يُلغي صوابه في ميزان النيّة، ولا في شرع الله.
بل لعل هذه الغربة، وما فيها من مشقة، ترفَع مقامك! ما ظنُّك بمن يسعى لأجل أولاده وزوجته، يعيش غريبًا، ويعمل نهارًا، ويشتاق ليلًا؟ إنه -بإذن الله- مأجور من ربه.
هل التضحيات تُفهم فقط بعد أن ندفع أثمانها الغالية؟
مع الأسف نعم! في كثير من الأحيان لا تُفهم التضحية إلا بعد فوات الأوان؛ لكنَّك لا تتعامل مع ميزان الناس فقط، بل مع ميزان الله، الذي قال: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّـٰبِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10]. فحين تدفع الثمن وحدك، اعلم أن الله يُحصي دموعك، ويعلم وحشتك، ويرى سعيك.
ربما لا يفهم من حولك اليوم حجم ما تُقدِّمه؛ لكن سيأتي يوم -وقد يكون قريبًا- يُدرك فيه أولادك وزوجتك ما فعلته لأجلهم، ويُعيد الله لك اعتبارك في قلوبهم. أما اليوم، فاحتسب، واصبر.
كيف تُخفف عن قلبك وتصبِّر نفسك؟
أول العلاج أن تُبوح كما فعلت، أن تتكلم، ولا تكتم. والأهم أن ترفع همَّك إلى السماء. قل: «يا رب، أنت أعلمُ بحالي، وأنت أرحمُ بي من نفسي»، وذكِّر قلبك بأن من يُدبِّر أمرك هو الرحمن، الرحيم، اللطيف، الخبير، لا سواه.
اقرأ القرآن، وتدبر آياته، واطمئن به، وعوِّد نفسك على الدعاء كل يوم: «اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً».
واجعل لك ركعاتٍ في جوف الليل، تبثُّ فيها شكواك لله، كما فعل يعقوب: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى ٱللَّهِ﴾ [يوسف: 86].
ما السبيل لأداء واجبك تجاه أسرتك في ظل الواقع المفروض؟
إن سبيل ذلك هو الموازنة الحكيمة، والتواصل الجيد، واستحضار النيَّة في كل دورٍ تؤديه.
ليس بالضرورة أن تكون موجودًا بجسدك فقط، بل بقلبك وعاطفتك.
اتصل بأولادك دائمًا، اسأل عن تفاصيلهم، أرسل إليهم رسائل قصيرة فيها دعوات وكلمات محبة.
واجعل بينك وبين زوجتك مساحة للحوار اللطيف، أخبرها أنك تتفهم ألمها وتقدِّر شعورها؛ لكن ذكِّرها بالهدف من غربتك.
حاول أن تزورهم قدر المستطاع، وإن مرة في العام، أو تجلبهم لزيارتك، فالجسد حين يحضر، يُصلح كثيرًا مما أفسدته المسافات.
وختامًا -أخي الكريم- ما أشرفك وأنت تحمل عنهم العناء، وتخفي الألم، وتصبر على ما أنت فيه! لا تنتظر أن يفهمك الناس، فيكفي أن الله يعلم ما في صدرك، وإننا لا نراك «هاربًا»، بل نراك كما وصف النبي ﷺ أمثالك: مجاهدًا، ساعيًا، مُضحِّيًا.
سيأتي يوم، تقف فيه وسط أبنائك، وقد كبروا، ويفهمون تمامًا ما فعلته لأجلهم، ويقولون: «جزاك الله عنّا خيرًا يا أبي»، سيأتي يوم تبتسم فيه زوجتك باكية، وتقول: «سامحني، لم أكن أقدِّرك بصورة كافية»، وسيأتي يوم تُنادى فيه على رؤوس الخلائق، فيبشرك الله بالرضا والجنة والسعادة الدائمة، ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَٱللَّهُ ٱلْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف: 18].
لك الدعاء، ولك التقدير. وإن احتجت يومًا أن تكتب ثانية، فلا تتردد، فقلوبنا مفتوحة لك، وآذاننا تُنصت، وربُّنا يسمع دعاءك قبلنا.
بارك الله فيك، وجعل لك من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيقٍ مخرجًا، ورزقك راحة البال وسعادة الدارين.