الإستشارة - المستشار : أ. فاطمة عبد الرءوف
- القسم : أسرية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
12 - رقم الاستشارة : 1033
19/02/2025
حكايتي مع الإهمال والخذلان – هند، 45 سنة أمي، الله يطول بعمرها، كانت دايمًا توصينا وتقول: "إذا أزواجكم عصّبوا، اطلعوا من الغرفة، لا تناقشوهم وهم غضبانين، علشان ما يغلطون عليكم أو يسبونكم." كنت أعتقد إن صبري وحكمتي بيخلوني أكسب راحتي، لكن الحقيقة؟ الصبر على اللي ما يستاهل ما يجيب إلا الوجع!
تزوجت، مثل أي بنت، أحلم بحياة مستقرة، زوج يكون سندي، بيت مليان حب وأمان. كنت أشوفه كل حياتي، أطيح وأقوم على كيفه، كنت أبرر إهماله، أقنع نفسي إنه مشغول، إنه تعبان، يمكن أنا اللي لازم أكون أكثر تفهّم. لكن مع الوقت، بدأت أفهم الحقيقة اللي كنت أدفنها بإيدي! زوجي ما كان بس مهمل، كان نرجسي بكل معنى الكلمة! يشوف نفسه وبس، ما يشوفني، ما يشوف عياله، كل اللي يهمه راحته وسعادته.
حاولت، صبرت، تجاهلت، لكن القهر ياكل الواحد شوي شوي. كنت أحتاجه في مواقف كثيرة، في مشاكل، في قرارات، لكنه دايمًا بعيد. متزوج عليّ، عايش حياته، وأنا؟ مجرد محطة يرجع لها وقت ما يمل! مو بس وجع الإهمال اللي كسرني، لكن وجع نظرة عيالي لي. كنت دايمًا أقول لهم: "لا تحطون اللوم على أبوكم، الحياة كذا، الظروف، المسؤوليات..." لكن الحقيقة اللي ما قدرت أخبيها أكثر، إن اللي يبي يكون أب وزوج فعلًا، ما في شي يمنعه!
كنت أموت عليه من الداخل، لكن يوم حسّ إني خلاص مو فارقة معاي، صار يخاف من زعلي، صار يداري خاطري. بس مو لأنه يحبني، لا! لأنه حسّ إني صرت قوية، إني ما عاد أخاف منه، ما عاد يقدر يتحكم فيني. تعلمت إن الحرمة إذا ما كانت قوية، محد يحترمها! حتى عيالي، كنت أشوف نظراتهم لي كل مرة يصير بيني وبين أبوهم خلاف، أشوف الخوف بعيونهم، الحزن، الانكسار. العيال ما ينسون، سواء كانوا صغار أو كبار، كل وجع بين الأم والأب ينطبع بقلوبهم للأبد.
والمصيبة؟ إنه متزوج عليّ، وعادي عنده زوجته الثانية تسوي اللي تبيه، لكن أنا؟ لازم أكون المثالية بكل شي، لازم أتغير عشانه، لازم أتقبله بكل عيوبه، بينما هو مستحيل يتغير! دايمًا الغلط في غيره، دايمًا المشكلة مو فيه، دايمًا أنا اللي لازم "أتفهم"! بس خلاص، تعبت! كنت أخاف بالبداية، كنت أحس إن الحياة بدونه مستحيلة، كنت أقول لنفسي: "وين أروح؟ كيف أعيش؟" لكن الإهمال الطويل، القهر، التجاهل، كل هذا قتل الخوف فيني.
وصلت لمرحلة ما عاد يهمني وجوده، مو لأنه ما كان غالي، لكن لأني خلاص، استهلكت كل مشاعري على شخص ما يستاهل. ما عندي سند، ولا أحد أقدر أتكئ عليه، لكن الضغوط تغيّر الواحد غصب! الأم تصير قوية علشان عيالها، حتى لو خسرت حياتها، حتى لو خسرت رفيق دربها، أهم شي مصلحتهم، أهم شي إنهم يعيشون بكرامة وسعادة، مو في بيت كله وجع ودموع. أمي خسرت كل شي عشانا، وأنا ما أبي أكرر نفس المصير! الحين سؤالي لكم: أستمر؟ أواجهه؟ ولا خلاص، أترك كل شي وأعيش على الهامش وانتظر الموت؟تظر الموت و خلاص ؟
أختي الكريمة هند، أهلاً وسهلاً ومرحبًا بك على بوابة الاستشارات الالكترونية لمجلة المجتمع.. قرأت رسالتك أكثر من مرة وفي كل مرة أشعر بألمك ينطبع على قلبي.. أستشعر ما دار في قلبك البريء على مدار سنوات وسنوات حتى وصلت لهذه المرحلة من الوجع والدموع والوقوف على بوابة الاكتئاب حينًا وفي أحيان أخرى على بوابات الغضب والتمرد والرغبة في كسر كل الروابط مهما كانت النتيجة.
أختي الكريمة، لقد حكيت لي عن كثير من مشاعرك وألمك ودموعك ومشاعر الإهمال والخذلان الذي بدأت بها رسالتك، ولقد أحسنت صنعًا بالتعبير عما تشعرين به فكبتك لمشاعرك لسنوات طويلة أرهق روحك كثيرًا، وليتك تحدثت من قبل وقمت بالتنفيس من مشاعر الاحتقان التي تعانين منها، وأريدك ألا تترددي في الكتابة لنا مرة ثانية وثالثة حتى لو كان الهدف البوح فقط.
والآن، اسمحي لي سأحاول تنظيم بعض الأفكار حتى نستطيع القيام بفعل ما ملموس يؤثر بشكل إيجابي على مشاعرك وعواطفك.
الحقيقة أنك لم تحكي تفاصيل كثيرة عنك وعنه وعن حياتكما.. كل ما وصلني من معلومات أنه تزوج عليك ولا يعدل بينك وبينها، فدائمًا ما يطالبك أن تكوني زوجة مثالية بينما هي لديها مساحة كبيرة من الحرية.
ما وصلني من معلومات أيضا أن هناك مشكلات بينك وبينه تحدث أمام الأولاد حتى فقدت القدرة على التبرير لهم.
هذا بالإضافة لتفاصيل عامة كونه شخصًا مهملاً أنانيًّا لا يهتم إلا بنفسه وراحته وسعادته.. لا يقدم لك الدعم وقت أن تحتاجيه.
من التفاصيل التي ذكرتها أيضا أنه بدأ يتغير معك عندما بدأت تتغيرين معه، وبحسب ما قلته "لكن يوم حسّ إني خلاص مو فارقة معاي، صار يخاف من زعلي، صار يداري خاطري". وكان تفسيرك لذلك هو: "بس مو لأنه يحبني، لا! لأنه حسّ إني صرت قوية، إني ما عاد أخاف منه، ما عاد يقدر يتحكم فيني".
قلت أيضا إنه لا يوجد لديك أحد يقدم لك الدعم ويكون لك السند، أي لا يوجد لديك حاضنة داعمة في أي قرار تتخذينه.
فسرت رغبتك في التغيير وأن تصيري امرأة قوية من أجل مصلحة الأولاد وحتى لا يعيشوا في بيت كله وجع ودموع.
أيضا بدأت رسالتك بوصايا الوالدة بضرورة الصبر والتحمل وأنهيتها بأن والدتك خسرت كل شيء ولا ترغبين أن تكوني مثلها.
الهدوء أولا
غاليتي هند، نحن بحاجة لبعض الهدوء.. نريد لضجيج المشاعر أن يهدأ قليلا ونريد لصخب الأفكار المتضاربة أن تهدأ هي الأخرى حتى نجد ضوءًا في نهاية هذا النفق الذي نعيشه.. ما رأيك أن توقفي القراءة ونتنفس ببطء.. خذي نفسًا عميقًا وأنت تعدين: واحد.. اثنان.. ثلاثة.. أربعة، احبسي النفس وعدي واحد.. اثنان.. ثلاثة.. أربعة. والآن، أخرجي الزفير من أنفك أو من فمك وعدي واحد.. اثنان.. ثلاثة.. أربعة.. خمسة.. ستة، كرري تمرين التنفس عشر مرات.. وانشغلي به ولا تفكري إلا في تنفسك وراقبي حركة الشهيق والزفير.
والآن دعينا نصلّ على النبي بالصيغة الإبراهيمية عشر مرات: اللهم صل على محمد وعلى أل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.. الآن بماذا تشعرين؟ أظنك تشعرين بالهدوء بعض الشيء ولديك الاستعداد أن نتحاور حوار العقل.
الوسطية في العلاقات
هناك نقطة معرفية غاية في الأهمية.. نقطة معرفية مرتبطة بالعلاقات وخاصة العلاقة الزوجية (وللأسف فكثير من النساء لا يعرفن هذه النقطة)، يمكننا أن نطلق عليها "نقطة الاتزان"، فكثير من النساء وأنت كنت واحدة منهن إما يغدقن العطاء بغير حساب ويلتمسن الأعذار إلى ما لا نهاية ويتحملن حتى يئن الصبر منهن دون شكوى أو يتمردن بعنف ويرفضن الحلول الوسط، ولا ينشغلن إلا بالقوة ولا يلتمسن أي أعذار وربما حتى لا يراعين الواقع ويرغبن بحرق جميع السفن.
وأنت كنت لسنوات طويلة المرأة الأولى، ومع كثرة الضغوظ والخذلان ترغبين بالتحول للثانية دون أن تمري على "نقطة الاتزان"، وبالتأكيد الوصول لها ليس سهلا؛ لأن الجراح النفسية النازفة تجعل الرؤية مغبشة.
سأحدثك بصراحة وأرجو ألا تؤلمك صراحتي لكنني أريد إزالة بعض الغبش عن الصورة.. أنا أريد أن أسألك سؤالا صريحًا وتريثي أرجوك في إجابته: من السبب فيم آل إليه حالك؟ هل هو زوجك الأناني؟ أم أنت التي لم تستطيعي حماية حدودك النفسية؟
سأسألك سؤالاً ثانيًا قد يكون مؤلمًا لكنه ضروري ومرتبط بالسؤال الأول: لماذا نجحت الزوجة الثانية في الاستحواذ على انتباهه حتى أصبحت أنت مجرد محطة في حياته؟ كيف نجحت أن تجعله متساهلاً معها؟ لماذا هو غير أناني في التعامل معها؟
الإجابة ببساطة، ليست المشكلة الأساسية في طبيعة الرجل الذي عشت معه لسنوات وإنما المشكلة كانت في منهجيتك في التعامل معه وردود فعلك عندما كان يعتدي على حدودك النفسية مما جعله يطغى ويمعن في إيذائك.. والدليل على ذلك أنك عندما بدأت في التغيير (وسيأتي الحديث عن منهجية التغيير المطلوبة) بدأ هو في التراجع لخطوات.
تعرفين يا هند أبسط شيء في الوجود أن يرتدي الإنسان ثوب المظلومية، أن يرى أن كل ما حدث له في حياته كان لأمور خارجة عن إرادته.. نصائح الوالدة.. الزوج النرجسي.. عدم وجود السند، لا يعني هذا أن الإنسان لم يظلم.. بلى ظلم لكنه كان مسئولاً عن استمرار هذا الظلم وعدم مقاومته.
منهجية التغيير
هند الغالية، أنت بحاجة للتغيير من أجل نفسك فهي تستحق هذا التغيير.. أعلم أنك تحبين أولادك وترين أنهم ثمرة حياتك، ولكن التغيير لا بد أن يكون لنفسك أولا وثقي أنه سينعكس عليهم.. والتغيير الناجح لا بد له من خطوات هادئة مستقرة تعرف وجهتها جيدًا وتنظم طريقها لمراحل وتعطي لكل مرحلة حقها من العمل.
دعينا نبدأ فورًا في المرحلة الأولى.. مطلوب منك تفريغ مشاعرك النفسية السلبية.. اكتبي كل ما تشعرين به (وما شاء الله تمتلكين أسلوبًا مميزًا في الكتابة).. اكتبيه لنفسك أو راسلينا أو ارسميه، ولا يشترط أن تكوني رسامة فقط عبري عما تشعرين به ولو بدا مجرد "شخبطة"..
ابكي في سجودك، وأخرجي ما في قلبك كله لأرحم الراحمين، وستشعرين بعد أن تفرغي من الصلاة وكأن جبل الهموم قد انزاح عن صدرك.
ـ احرصي على ممارسة تمارين التنفس، وهناك تطبيقات كثيرة على الهاتف الجوال لهذه التمارين التي شرحتها لك في أبسط صورة.
ـ أذكارك وقرآنك وها هو شهر القرآن يقترب وقد أهلت نسائمه فاغتنميه.. أجّلي اتخاذ أي قرار مصيري في حياتك حتى ينقضي رمضان بعبادته وصلاته وقرآنه ودعائه، وقتها ستشعرين أنك قريبة جدًّا من نقطة الاتزان وسيزول الغبش الذي ترين من خلاله حياتك فتستطيعين وقتها اتخاذ قرار واع وأنت مدركة أبعاده.
ـ زوجك تعاملي معه بهدوء شديد (هدوء يحيره).. لا تثوري عليه.. لا تناقشيه.. لا تطلبي منه أشياء.. حاولي تخيل حياتك دونه كيف ستسير.. وحاولي إرسال رسالة ضمنية له مفادها "إني أراجع حياتنا معًا وأعيد تقييمها".
ـ اهتمي بنفسك بطعامك الصحي.. بتعرضك لضوء الشمس.. بممارسة رياضة خفيفة.. بزينتك وأناقتك.. أنت تستحقين أن تكوني في أجمل وأصح صورة بحاجة لمد جسور الثقة مع ذاتك.
ـ لا تتناقشي مع الأولاد في طبيعة العلاقة التي تربطك بوالدهم.. لا تبرري له ولا تسمحي لهم بالتطاول عليه، وأريدك أن تعرفي أنه لا يمكن لك أن تلغيه من حياتهم مهما كان أبًا أنانيًّا سيظل والدهم الذي يسعون وراء بره ورضاه فلا تخلطي العلاقات.
بعد انتهاء شهر رمضان إن شاء الله تعالى أريدك أن تكتبي لنا مرة أخرى وتحكي لنا مشاعرك العميقة تجاه نفسك وتجاهه وتصوراتك للمستقبل حتى نستطيع بناء المرحلة الثانية معًا، دمت بألف خير وأسعد الله قلبك وألهمك الصواب.