فرح الآخرين ينغِّص عليها.. رسالة إلى قلبٍ يقاوم

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. فتحي عبد الستار
  • القسم : الأخلاق والمعاملات
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 42
  • رقم الاستشارة : 3065
25/10/2025

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

أنا أختكم في الله، متزوجة وعندي عيال ولله الحمد، لكني أمر بضيقة نفسية وكدر أخجل أقوله لأي أحد.

المشكلة إني صرت ما أفرح لما أسمع أخبار الخير والرزق للناس اللي حولي، خصوصًا القريبين مني. بالعكس، أحس بضيقة وكتمة في صدري، وأحاول أغير السالفة بسرعة أو أسوي نفسي ما انتبهت.

في هذي اللحظات، بدل ما أدعي لهم بالبركة والزيادة، أحس بـنار في قلبي وضيق قوي، وأجلس أقارن وضعي بوضعهم وألوم نفسي وزوجي.

هالضيقة والكتمة اللي أحس فيها هل هي حسد؟ يعني أتمنى زوال النعمة؟ أنا أحاول أقاوم هالشيء وما أتمناه، بس الضيق يكون موجود غصب عني.

يا ليتكم تجاوبوني، وتقولون لي إيش أسوي عشان أفك نفسي من هالحالة؟

الإجابة 25/10/2025

مرحبًا بك أختنا الفاضلة، وأشكرك جزيل الشكر على مراسلتنا، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يفرج همك، ويكشف كربك، ويملأ قلبك بالطمأنينة والرضا والمحبة الخالصة لوجهه الكريم، وأن يبارك لك في زوجك وأولادك وفي كل ما أنعم به عليك، وبعد...

 

فإن ما تشعرين به ووصفتِه في رسالتك يتطلب منا أن نفرِّق تفريقًا دقيقًا بين مفهومين أساسيين: الغبطة والحسد.

 

1. الغبطة المحمودة:

 

هي تمني النعمة التي عند الغير دون تمني زوالها عنهم. وهذا شعور إيجابي، ويُعد دافعًا للعمل والاجتهاد والسعي في الخير. وقد حثنا عليه الشرع في الأمور الحسنة. وقد أشار النبي إلى أمرين فقط يُباح فيهما هذا التمني المحمود (الحسد بالمعنى اللغوي): «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلَّطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها» [رواه البخاري]. أي: لا غبطة محمودة إلا في هذين الأمرين، وهما إنفاق المال في الخير، واستعمال العلم والحكمة في نفع الناس.

 

2. الحسد المذموم:

 

وهو تمني زوال النعمة عن الغير. وهذا هو الداء القلبي الذي حذّرنا منه القرآن والسنة؛ لأنه يمزق وشائج المودة، ويفسد القلب، ويأكل الحسنات.

 

هل ما تشعرين به حسد؟

 

ما تصفينه من ضيق وكتمة ومقارنة ولوم للنفس والزوج، هو في الحقيقة أوائل خواطر الحسد وهمساته، وليس بالضرورة الحسد المذموم الذي يصل إلى تمني الزوال. كونك تقاومين هذا الشعور ولا تتمنين زوال النعمة هو خط الدفاع الإيماني الأول الذي يحميك، وهذا دليل خير عظيم في قلبك.

 

أنت الآن في منطقة رمادية بين الضيق النفسي لعدم امتلاكك هذه النعمة (وهو جزء من طبيعة النفس البشرية المقارِنة) والرغبة في عدم تمني زوالها (وهو وازع الإيمان والتقوى). هذا الضيق الذي تحسين به ليس حكمًا نهائيًّا على قلبك بالحسد، بل هو جرس إنذار رباني لتنتبهي لقلبك الذي يقاوم الفساد، وتغذيه بجرعات من الرضا والتوكل.

 

تذكري قول النبي ﷺ: «ثلاث لا يسلم منهن أحد: الطِيَرَةُ (التشاؤم)، والحسد، والظنُّ. وسأحدثكم بالمخرج من ذلك: إذا تَطَيَّرْتَ فامضِ، وإذا حسدتَ فاستغفِر، وإذا ظننتَ فلا تُحَقِّقْ» [رواه الطبراني والبيهقي]. فمجرد الخاطر بالحسد يزول بالاستغفار وعدم الاسترسال فيه.

 

تغيير المفاهيم بداية الإصلاح

 

للتغلب على هذه الحالة، نحتاج إلى تغيير جذري في المنظور الذي تنظرين به إلى نعم الآخرين ونعمك، وذلك عن طريق غرس المفاهيم التالية:

 

1. الأرزاق بيد الله القادر

 

أختي الكريمة، إن مفتاح السعادة والسكينة هو اليقين التام بأن الأرزاق مقسمة بقدر إلهي حكيم، فهو -سبحانه- لا يظلم أحدًا، ولا يُعجِزُه شيء.

 

2. خزائن الله لا تنفد:

 

كل ما عند الناس هو من خزائن الله الواسعة، وهو قادر على أن يعطيك أضعاف ما أعطاهم. فلا تضيِّقي على نفسك برؤية ما في أيدي الخلق، وانظري إلى منتهى الأمر وهو المبدأ: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِك لَهَا وَمَا يُمْسِك فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكيمُ﴾ [فاطر: 2]. فادعي لهم، وادعي لنفسك؛ لأن مفاتيح الخير عند الله لا عند البشر.

 

3- الرضا هو عمود النجاة:

 

إن أعظم صفاء للقلب هو الرضا بما قسم الله، لأنه يقطع دابر المقارنات المرهقة. قال النبي ﷺ: «قد أفلح من أسلم، ورُزق كفافًا، وقنعه الله بما آتاه» [رواه مسلم]. وهذا القناعة والرضا ليست دعوة للكسل، بل هي دعوة لراحة القلب من التطلع لغير الضروري، والتركيز على ما بين يديك.

 

4- الفرح لهم علامة الإيمان:

 

إن المؤمن الصادق يفرح لأخيه كما يفرح لنفسه، وهذه هي حلاوة الإيمان التي ذكرها النبي ﷺ: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» [رواه البخاري]. فعَوِّدي لسانك وقلبك على الدعاء لهم بالزيادة والبركة فور سماع الخبر السار. قد تجدين صعوبة في البداية؛ لكن استحضار النية بأن هذا الفعل هو عبادة عظيمة ومحبة لله ولرسوله، سيُحوِّل هذا الضيق إلى سعادة.

 

5- المقارنة ظالمة لك ولهم:

 

الواقع يخبرنا أن كل إنسان يمتلك نعمًا لا يراها غيره، أو يمر بابتلاءات لا يعلمها أحد. والمقارنة التي تقومين بها هي مقارنة ظالمة؛ تقارنين ظاهر حالهم (النعمة الظاهرة) بباطن حالك (الهم والضيق الذي تشعرين به).

 

إنك إذا نظرت إلى ما لديك -الزوج والأولاد مثلًا- ستجدين أن لديك رزقًا عظيمًا لا يقدَّر بمال، وهو من أكبر النعم التي يسعى إليها من حُرم منها. تذكري قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كفَّارٌ﴾ [إبراهيم: 34].

 

اجلسي مع نفسك واكتبي «قائمة الامتنان»، سجِّلي فيها نعمك: صحتك، عافية أولادك، حنان زوجك، سقف بيتك، الأمان، وغير ذلك من النعم التي اعتدتِ عليها حتى نسيتِ أنها نِعم.

 

6- قد يكون الحرمان نعمة:

 

قد يكون في حرمانك من نعمة معينة (وقتيًّا) خير عظيم لا تعلمينه. ربما لو امتلكتِ هذا الشيء الذي حسدتِ عليه، لكان سببًا لشقائك أو انشغالك عن عبادة أو تربية أولادك. ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [الشورى: 27].

 

كيفية التخلص من هذه الحالة:

 

لتفُكِّي نفسك من هذه الضيقة، وتتحرري من هذا الشعور، إليك هذه النصائح:

 

1- الإسعاف الأولي الفوري:

 

فور شعورك بالضيق أو المقارنة، استغفري (مثلًا 10 مرات) وقولي: «ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، اللهم بارك لهم، وارزقني خيرًا منها». هذا تطبيق للمخرج النبوي: «وإذا حسدت فاستغفر»، ويُعد تحويلًا فوريًّا للشعور السلبي إلى دعاء إيجابي لك ولهم.

 

2- عبادة الامتنان:

 

خصصي 5 دقائق يوميًّا لكتابة أو تذكُّر ثلاث نعم تشكرين الله عليها (صحة، طعام، ابتسامة ولد، مساعدة زوج). هذا تعرُّض لقول الله تعالى: ﴿لَئِنْ شَكرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكمْ﴾ [إبراهيم: 7]، ويُحوِّل بؤرة التركيز من: «ماذا ليس عندي؟» إلى «ماذا عندي؟».

 

3- الدعاء للغير سرًّا وعلانية:

 

عند سماع أي خبر سار لأحد، ادعي له بصدق أمامه إن كان حاضرًا، وعوِّدي لسانك على قول: «اللهم زد وبارك». ثم ارفعي يديك سرًّا وادعي له بظهر الغيب. تذكَّري أن الملائكة تقول: «ولك بمثل»، وهذا يزرع المحبة بينك وبين الناس.

 

4- تغيير بؤرة الاهتمام:

 

إذا شعرتِ ببوادر المقارنة، قومي فورًا بترك الحديث وتغيير المكان أو الانشغال بهدف خاص بك (تعلُّم شيء جديد، قراءة القرآن، القيام بمهمة منزلية مؤجلة). هذا يقطع الاسترسال مع وسوسة النفس والشيطان، ويوجِّه الطاقة السلبية نحو عمل بنَّاء لك.

 

5- تذكُّر الآخرة:

 

استحضري دائمًا أن الرزق الحقيقي هو الجنة، وأن النعم الدنيوية هي زائلة. تذكَّري قول النبي ﷺ: «لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء» [رواه الترمذي]. هذا يضع النعم الدنيوية في حجمها الطبيعي، ويقلل الاهتمام بها، ويجعلك تركزين على الغاية الأسمى.

 

وختامًا أختي الفاضلة، كوني على يقين بأن جهاد النفس هو أسمى أنواع الجهاد. فكل ضيقة تشعرين بها الآن وتجاهدينها، هي حسنة تكتب لك، ودرجة تُرفعين إليها.

 

ابذلي الأسباب، واجعلي من قلبك سكنًا للطمأنينة والرضا، متوكلة على الله الذي قال: ﴿أَلَا بِذِكرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28].

 

أسأل الله العظيم أن يطهر قلبك من كل شائبة، وأن يملأه بمحبة الناس وحب الخير لهم، وأن يرزقك السعادة والرضا حيثما كنتِ.

 

روابط ذات صلة:

كيف أتخلص من الغيرة والحسد تجاه نجاحات الآخرين؟

الرابط المختصر :