الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : الأخلاق والمعاملات
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
86 - رقم الاستشارة : 2793
27/09/2025
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أنا فتاة غير متزوجة أشتغل في قسم مختلط، والشغل يفرض عليّ أتواصل باستمرار مع زملائي على الإيميل والمراسلات الرسمية. وأحرص دايمًا تكون لغة الحوار شغل وبس، بعيد عن أي كلام شخصي أو مجاملات.
المشكلة إن واحد من الزملاء صار يستخدم في المراسلات كلام يتجاوز الحدود المهنية، بنبرة ما تريحني، رغم إني أكتفي بالرد الرسمي والجاف. ومع محاولاتي المستمرة للرد الرسمي، هالكلام قاعد يتكرر، وهالشيء خلاني أحس بعدم الارتياح.
سؤالي هو: هل لازم أقطع المراسلات تمامًا مع هالزميل، حتى لو كان الشغل يتطلب مني أتواصل معه؟ وإيش هو المعيار الشرعي اللي يفرق بين التعامل المهني المسموح فيه لخدمة الشغل، والتجاوز اللي ممكن يكون فتنة أو معصية؟ وهل إحساسي بعدم الارتياح لوحده يكفي عشان آخذ إجراءات قوية؟
جزاكم الله خيرًا.
مرحبًا بك يا ابنتي، وأسأل الله أن يحفظك بحفظه، وأن يبارك في سعيك، ويثبتك على الحق والخير، ويُعينك على كل ما فيه صلاح دينك ودنياك، وبعد...
فموضوع عمل المرأة في بيئة مختلطة هو من الموضوعات الحساسة في عصرنا، ويتطلب منا وقفة تأمُّل شرعية واجتماعية وواقعية.
وما تطرحينه يا ابنتي يعبر عن نفس مؤمنة تخشى الزلل، وهو أمر مقدَّر؛ لأنك حريصة على الالتزام بالحدود، وتشعرين بعدم الارتياح تجاه تجاوزات زميلك، وهذا دليل على إيمانك الحيِّ وفطرتك السليمة.
إنّ الإسلام دينٌ واقعي لا يُغفل طبيعة النفس البشرية، ولا يضيِّق على الناس رزقهم وعملهم المشروع، ولكنه يضع سياجًا من الوقاية لحماية الفضيلة، صيانةً للمجتمع والأسرة والأفراد.
الفاصل بين التعامل المهني والتجاوز
إنّ الأصل في التعامل بين الرجال والنساء في محيط العمل هو الجواز عند الحاجة والمصلحة المعتبرة شرعًا، بشرط التقيد بالضوابط الشرعية التي تحفظ لكل طرف احترامه وعفَّته، وتمنع فتح باب الفتنة.
1- الضابط القرآني: الحوار بالمعروف للحاجة
لقد وضع القرآن الكريم قاعدة جامعة في خطاب النساء الأجنبيات، وهي قاعدة القول المعروف، والابتعاد عن الليونة والميوعة في القول التي قد تُطَمِّع مَن في قلبه مرض.
يقول الله تعالى: ﴿يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا﴾ [الأحزاب: 32].
* التعامل المهني المباح: هو الذي يتحقق فيه مبدأ «القول المعروف»، أي: القول المستقيم والواضح، الخالي من أي رقة زائدة أو مجاملات شخصية أو عبارات عاطفية، ويكون بقدر الحاجة المتعلقة بالعمل فقط. ويشمل ذلك المراسلات الرسمية المباشرة التي تقتضيها طبيعة العمل.
* التجاوز المحظور: هو كل قول أو فعل يخرج عن نطاق الحاجة المهنية، ويتسم بـ«الخضوع بالقول»؛ سواء بالصوت أو بالرسائل المكتوبة، كالكلمات التي تحمل مغازلة، أو توددًا شخصيًّا، أو مزاحًا غير لائق، أو تكرار المجاملات الخارجة عن سياق العمل. هذا التجاوز هو الذي يُطَمِّع الذي في قلبه مرض، وهو البوابة الأولى للفتنة والمعصية.
2- الضابط النبوي: اجتناب الخلوة وسد الذرائع
أشار النبي ﷺ إلى ضرورة سد كل طريق يؤدي إلى الفتنة، ومن ذلك اجتناب الخلوة؛ سواء كانت خلوة حسِّية، أو معنوية كالخلوة في المراسلات الخاصة الخارجة عن نطاق العمل.
قال رسول الله ﷺ: «أَلَا لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ» [رواه الترمذي].
فإذا كان التواصل الإلكتروني خارج عن نطاق العمل الرسمي، والمطَّلع عليه، وتجاوز حدود اللياقة والاحترافية، فإنه يُعدُّ نوعًا من الخلوة المعنوية التي لا مبرر لها شرعًا، والشيطان حريص على استغلالها.
دلالة شعورك بعدم الارتياح والواجب عليك
ابنتي الفاضلة، إحساسك بعدم الارتياح هو بمثابة جرس الإنذار الإيماني الذي وهبك الله إياه، وهو دليل على سلامة قلبك، وضرورة العمل به.
1- الإحساس بالارتياح هو معيار شرعي
إنّ الطمأنينة والريبة هما معياران مهمان، فما ارتاح له قلبك السليم فهو خير، وما تشككتِ فيه فاجتنبيه. وقد قال رسول الله ﷺ: «الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاك فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ» [رواه أحمد].
فكونُ كلام هذا الزميل يريبك ولا يريحك، فهذا يكفي تمامًا لكي تتخذي إجراءات قوية؛ لأن هذا الكلام قد بدأ يدخل ضمن حدود الشبهات التي حذّرنا منها النبي ﷺ.
2- الإجراءات الواجب اتخاذها
بما أنك حاولتِ مرارًا الرد الرسمي والجاف عليه، واستمر هو في التجاوز، فهذا يدل على أنه لم يفهم أو لا يريد أن يفهم. لذا، يجب عليك اتخاذ خطوات حاسمة ومتدرجة لقطع دابر هذه التجاوزات، ومنها:
أ. توجيه تحذير رسمي مهذَّب وواضح (خطوة وقائية أولى)
اكتبي له رسالة واضحة وحاسمة، وبنبرة جادة وقاطعة. على سبيل المثال: «زميلي الفاضل، المراسلات بيننا يجب أن تنحصر بشكل كامل في متطلبات العمل. أرجو عدم استخدام أي عبارات شخصية أو مجاملات خارج سياق المشروع، والالتزام بالعبارات المهنية، حفاظًا على العمل واحترافيته.
ب. الردع الإداري (كسر حاجز الصمت)
إذا تكررت التجاوزات بعد التحذير المباشر، فيجب عليك رفع الأمر لإدارتك المسؤولة أو «إدارة الموارد البشرية»، مع إرفاق الرسائل التي تثبت التجاوز. وهذا ليس وشاية؛ بل دفاع عن نفسك وعفَّتك، وتجنُّب لفتنة قد تقعين فيها أو يقع هو فيها، وهو أيضًا من باب النهي عن المنكر الذي قد يترتب على السكوت عنه ضرر لك أو لمكان العمل.
ج. قطع المراسلات الخاصة (الخيار الأخير والحاسم)
الأصل هو أن التواصل يكون بقدر حاجة العمل الضرورية التي لا تستطيعين تفويضها لزميل آخر. ولكن إذا لم يُجْدِ التحذير أو الردع الإداري نفعًا، واستمر في التجاوزات، وبدأ خوفك على دينك أو راحتك النفسية يزداد، فأنصحك بقطع المراسلات معه تمامًا، حتى لو كان هناك بعض الضرر في سير العمل، وربما هذا ينبه الإدارة لجسامة الأمر.
ونصيحتي هذه مبنية على أن دفع المفاسد مُقدَّم على جلب المصالح، وأن المحافظة على الدين مقدمة على المحافظة على العمل.
اطلبي من الإدارة تحويل أي مهمة تحتاج تواصلًا معه إلى زميل آخر، أو اجعلي جميع مراسلاتك معه في نطاق المراسلات الجماعية (CC) التي يطلع عليها مديرك المباشر بشكل دائم، مما يجعله يكفُّ عن تجاوزاته.
وختامًا يا ابنتي، أنتِ على ثغر عظيم من ثغور العفة والطهارة، فاستعيني بالله، وتوكلي عليه، فمن يتقِ الله ييسر له أمره ويفتح له الأبواب. قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2 و3]. فالله معك ولن يضيِّعك.
ثبتك الله على الخير، ووفقك لما يحب ويرضى.
روابط ذات صلة:
بيئة عملي تسودها المخالفات.. هل بقائي إقرار بالباطل؟
مِزاحي مع الزملاء في العمل يقلقني
الداعية والمراسلات الخاصة.. كيف أضبط الأمر دون الوقوع في الزلل؟