أمي ظالمة وتدعو عليَّ.. كيف أبرُّها؟

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. فتحي عبد الستار
  • القسم : الأخلاق والمعاملات
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 142
  • رقم الاستشارة : 2372
15/08/2025

أحب أمي كثيرًا وأحاول برّها، لكنها تغضب سريعًا، وتدعو عليّ بأدعية مخيفة كلما اختلفنا، حتى في أمور بسيطة.

أبكي كثيرًا بعد كل شجار، وأشعر بأن الله قد يُعاقبني بدعائها.

هل يُستجاب دعاؤها وهي ظالمة؟

وهل يُعدّ اختلافي معها عقوقًا؟

وكيف أُوازن بين التعبير عن رأيي ورضاها؟

الإجابة 15/08/2025

ابنتي العزيزة، مرحبًا بك، وأسأل الله أن يشرح صدرك، ويُذهب همّك، ويُلين قلب والدتك عليك، ويجعل ما بينكما حبًّا ورحمة، ويكتب لك أجر البرِّ والصبر، ويقيك كل دعاء يؤذيك، ويجعلك من البارات القانتات، وبعد...

 

فإن بر الوالدين –لا شك- من أعظم القربات التي أمر الله بها بعد توحيده بالعبادة، فقال سبحانه: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّك أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: 23]. وبر الأم خصوصًا من أوجب الحقوق، لما لها من فضل الحمل والولادة والرضاعة والسهر والرعاية، حتى جاء رجل إلى النبي ﷺ يسأله: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: «أمك»، قال: ثم من؟ قال: «أمك»، قال: ثم من؟ قال: «أمك»، قال: ثم من؟ قال: «أبوك» [متفق عليه].

 

لكننا –يا ابنتي- نعلم أن الواقع أحيانًا يحمل مواقف شائكة، قد يجتمع فيها الحب الشديد مع لحظات غضب أو سوء تفاهم بين طرفي هذا الحب، كما حدث معك. وهنا تظهر الحاجة إلى فقهٍ دقيقٍ يجمع بين البر وحفظ الحقوق، وبين التعبير عن الرأي وتجنب العقوق، كما عبرت في رسالتك.

 

هل يُستجاب دعاء الأم إذا كانت ظالمة؟

 

الأصل أن دعاء الوالدين على أبنائهما أمر عظيم الخطر، وقد حذَّر النبي ﷺ من التعرض له، فقال: «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده» [رواه الترمذي].

 

لكن العلماء بيَّنوا أن الدعاء على الولد إن كان بغير حق، وكان الوالد فيه ظالمًا أو متجاوزًا، فإنه لا يُستجاب إذا شاء الله، رحمةً بعبده، وعدلًا من الله الذي قال: ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّك أَحَدًا﴾ [الكهف: 49]؛ بل قد يُحوِّل الله هذا الدعاء –إن صدقت نية الولد وكان بارًّا– إلى خير له أو رفع للدرجات؛ لأن الله العالم بالقلوب وهو علام الغيوب، ويزن الأعمال بميزان عدله ورحمته.

 

فاطمئني يا ابنتي، إن الله أرحم بك من نفسك، وأعدل من أن يأخذك بغير ذنب.

 

ولكن أرجو أن تتقبلي مني هذه الهمسة: يا ابنتي، لا تتسرعي في الحكم على أمك واتهامها بالظلم. فأحيانًا قد تبدو لك بعض تصرفاتها قاسيةً أو غير مفهومة، ولكن تذكري دائمًا أنها –مهما كانت- غالبًا ما تنبع من قلب محب يخاف عليك أكثر من أي شيء. حاولي أن تضعي نفسك مكانها، وفكري في الضغوطات التي تواجهها والمسؤوليات التي تتحملها.

 

احملي أفعالها دائمًا على المحمل الحسن، والتمسي لها العذر، فبذلك تحافظين على قلبك من قسوة الظن السيئ، وتكونين البنت البارة التي تحسن إلى أمها، وتتفهمها، وتقدر تضحياتها. فإذا حدث بينكما خلاف، فلا تترددي في فتح حوار هادئ وصريح معها، عسى أن يتضح لك الأمر وتعرفي أسبابها، وتصلا إلى صيغة تعامل بينكما، تكون أفضل ما يكون بين أم وابنتها.

 

هل مجرد الاختلاف مع الأم يُعد عقوقًا؟

 

العقوق هو كل قول أو فعل أو ترك يترتب عليه أذى أو إساءة للوالدين، عمدًا أو استهانةً بحقوقهما. أما الاختلاف في الرأي معهما، فإذا كان بأدب واحترام وبدون رفع صوت أو إهانة، فليس عقوقًا؛ بل هو أمر طبيعي في العلاقات الإنسانية كلها مع اختلاف درجاتها.

 

لقد اختلف الصحابة الكرام مع آبائهم وأمهاتهم أحيانًا في الرأي، ومع ذلك كانوا قمَّة في البرّ. والقرآن نفسه يعطينا قاعدة ذهبية في هذا الأمر، حين قال الله: ﴿وَإِن جَاهَدَاك عَلَىٰ أَن تُشْرِك بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ [لقمان: 15]. فحتى في أعظم الخلافات (العقيدة) أمرنا الله بمصاحبة الوالدين بالمعروف.

 

إذن، فالخطأ ليس في إبداء رأيك، بل قد يكون في الأسلوب والطريقة والوقت الذي تختارين فيه الحديث.

 

كيف توازنين بين التعبير عن رأيك ورضاها؟

 

إليك بعض المفاتيح العملية التي قد تساعدك:

 

1- اختيار التوقيت المناسب:

 

لا تتحدثي في موضوع حساس ومهم وهي غاضبة أو متعبة. انتظري لحظة هدوئها؛ فالقلوب في الصفاء والهدوء ألين وأقرب للاستماع.

 

2- البدء بالثناء:

 

قبل أن تعبِّري عن رأيك وتعارضيها، اشكريها على عطائها وجهدها، واذكري فضلها، فهذا يفتح قلبها لسماعك.

 

3- خفض الصوت ولين القول:

 

اجعلي لسانك مع أمك لَيِّنًا عذبًا، وصوتك خفيضًا رقيقًا، فالله يأمرنا تجاه الوالدين: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ [الإسراء: 24].

 

4- الدعاء:

 

لا تستهيني بقوة الدعاء؛ فكم من قلب قاسٍ رقَّ بدعوة صادقة. ادعي الله أن يشرح صدرك وصدرها، ويفتح بينكما بالحب والخير، وأن يؤلف بين قلبيكما، ويرزقكما الحب والود.

 

5- القلب لا الموقف:

 

لا بأس من أن تقدمي أمامها بعض التنازلات أحيانًا، وتتركي الجدال معها، وتخفضي جناحك لها، وتنحي رأيك جانبًا، حتى لو كان الحق معك، فكسب القلوب أولى من كسب المواقف، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله.

 

وختامًا يا ابنتي، علاقتك بأمك بناء مقدَّس، وإن أصابه تصدُّع لأي سبب، فأنت مأمورة بإصلاحه مهما كانت الظروف؛ لأن البر لا يسقط حتى لو قصَّر الوالدان. واعلمي أن صبرك عليها واحتسابك الأجر، قد يكونا سببًا لرفع درجاتك عند الله درجات، وتكفير سيئاتك، وفتح أبواب رزقك.

 

أسأل الله أن يملأ قلبك رضا، ويرضي أمك عنك، ويرضيك عنها، ويحفظك من كل ما يؤذيك، ويملأ حياتك سكينة وطمأنينة. وتابعينا بأخبارك.

الرابط المختصر :