الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : الأخلاق والمعاملات
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
43 - رقم الاستشارة : 2934
11/10/2025
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا شغال في مكان حساس وبيحصل احتكاكات كتير، ومؤخرًا اتعرضت لظلم أو إساءة جامدة قوي من مديري المباشر، والموضوع ده تاعبني نفسيًّا جدًّا.
أول ما بيحصلي موقف زي ده، بلاقي الغل والحقد بيتملك قلبي، وبتطلع مني رغبة شديدة إني أنتقم أو أدعي على اللي ظلمني دعوات قوية عشان الحق يرجع لي وأرتاح. بس بعد ما الغضب ده بيهدى، ضميري بيفضل يأنبني بقسوة، وبحس إني كده ناقص إيمان أو إني مش بجاهد نفسي صح.
فهل إحساسي برغبة الانتقام وإني أدعي على الظالم ده يعتبر ضعف نفسي مني ولا دي طبيعة بشرية عادية؟ وإيه الأحسن أعمله؟ أكتم الغيظ وأسعى للعفو من الأول خالص عشان آخد ثواب العافين، ولا أدعي ربنا يرد لي حقي وأكتفي بكده؟
جزاكم الله كل خير.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ومرحبًا بك أخي الفاضل، وأسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، أن يفرِّج همك، ويشرح صدرك، وأن يرفع عنك الظلم والأذى، وأن يجزيك خير الجزاء على صبرك وجهادك لنفسك، وأن يرزقك من واسع فضله خيري الدنيا والآخرة، وبعد...
فاعلم أخي الكريم أن ما تصفه من صراع داخلي بين نار الغضب ورغبة الانتقام من جهة، وبين تأنيب الضمير والسعي لكمال الإيمان من جهة أخرى، هو صراع طبيعي في بيئة مليئة بالاحتكاكات والضغوط، والتعرض للظلم والإساءة، وكل إنسان مُعرَّض لتقلبات النفس ووسوسة الشيطان الذي يحاول أن يغذي قلوبنا بنار الحقد والغل ليفسد علينا إيماننا وسلامة صدورنا.
فاطمئن يا أخي، فهذا الصراع علامة صحة وليس نقصًا في إيمانك؛ لأن شعورك بتأنيب الضمير بعد هدأة الغضب هو دليل على يقظة قلبك وقوة إيمانك.
الانتقام والعفو في ميزان الشرع
لقد أباح الشرع الحنيف رد الظلم ومجازاة المسيء بالمثل؛ لكنه في الوقت ذاته رغَّب في العفو، وهذا هو قمة التوازن في ديننا، يقول الله تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [سورة الشورى: 40]. هذا يثبت حقك في الرد بالمثل، ولكن مباشرة بعده يأتي الترغيب الأرقى: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [بقية الآية السابقة].
فتذكَّر أن شعورك بالغل والحقد هو جمرة إن لم تُطفئها، أحرقَت قلبك قبل قلب عدوك! فميزان الإيمان الصحيح هو أن تدرك هذه المشاعر كدافع للتخلص منها والارتقاء فوقها.
الدعاء على الظالم وضوابطه
إن الدعاء على الظالم مباح شرعًا ومستجاب بفضل الله وكرمه. يقول النبي ﷺ: «اتَّقِ دَعوةَ المظلومِ؛ فإنَّهُ ليسَ بينَها وبينَ اللَّهِ حجابٌ» [رواه الترمذي]. ولكن لهذا الدعاء ضوابط، منها ألا تتجاوز في الدعاء حد الظلم الذي تعرضت له، فتدعو عليه بأكثر مما يستحق. والأفضل والأرقى أن تدعو للظالم بالهداية أولًا، أو أن تكتفي بدعوة عامة تطلب فيها رفع الظلم عنك وأن يكفيك الله شرَّه، مثل قول: «اللهم اكفنيهم بما شئت» أو: «حسبي الله ونعم الوكيل»، فهذه الدعوات تحمل التوكل المطلق على الله ليأخذ حقك كيفما يشاء، ووقتما يشاء، وهذا يريح النفس ويطمئنها.
ميزان العفو السليم
إذا كان العفو سيُصلح من شأن الظالم أو لن يزيده طغيانًا، فهو الأفضل والأعلى في الأجر عند الله. وكظم الغيظ هو الخطوة الأولى لتهدئة النفس. يقول الله –تعالى- في وصف المتقين: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [سورة آل عمران: 134].
والعفو هو أن تترك حقك من المؤاخذة في الدنيا والآخرة، وهو من عزائم الأمور. قال تعالى: ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [سورة الشورى: 43]. ويقول العلماء إن الذي يعفو يحرر نفسه من سجن الحقد والتفكير في الانتقام، ويفتح صفحة نقية مع الله، فينال سكينة لا يجدها من يتمسك بحقه الدنيوي.
وأذكرك بأن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- لمَّا حلف على ألا ينفق على مسطح بن أثاثة، بعدما خاض مسطح في عرض عائشة أم المؤمنين وابنة الصديق، أنزل الله تعالى: ﴿وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [سورة النور: 22]. فما كان من أبي بكر إلا أن قال: «بلى، والله إني لأحب أن يغفر الله لي» وعاد ينفق عليه [رواه البخاري]. فهذا عفو من صحابي جليل عن رجل أساء إليه ووقع في عرض ابنته! فكيف بنا في حق دون ذلك؟!
وميزان العفو يعتمد على شرطين أساسيين:
* أن يكون مصحوبًا بالإصلاح، كما في الآية: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾، والإصلاح قد يكون للمُسيء بتوبته أو ندمه، أو لنفسك بسلامة قلبك، أو للمجتمع بعدم إثارة الفتنة.
* أما إذا كان عفوك سيزيد الظالم طغيانًا وتجبرًا على حقوق العباد، فالأفضل هنا أخذ الحق بالتي هي أحسن، أو بالدعاء عليه؛ لأن الشريعة لا تأمر بترك الظالم يتمادى في ظلمه.
هل دعاؤك على الظالم يخرجك من «العافين عن الناس»؟
نعم، يُخرجك من مقام «العافين» ولكنه لا يُخرجك من مقام «الصابرين»، فالعفو في الشرع هو إسقاط حقك في القصاص والمجازاة، بما في ذلك إسقاط حقك في الدعاء على الظالم. فإذا دعوت على ظالمك، فأنت تمارس حقك المشروع في رفع الظلم عنك واستيفاء قصاصك في الدنيا أو الآخرة، وبذلك تكون قد اخترت حقك في الانتصار بدلًا من فضيلة العفو.
والقرآن الكريم فرَّق بين الأمرين، فمن اختار الدعاء على الظالم، فقد أخذ بحقه الذي أباحه الله بقوله: ﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ﴾ [سورة النساء: 148]. أما من يطمح إلى مقام «العافين عن الناس»، فهو الذي يُضحي بهذا الحق رغبة في الأجر الجزيل من الله، كما قال تعالى: ﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [سورة آل عمران: 134].
لذا، إذا دعوت على الظالم، فأنت لست آثمًا؛ بل تمارس حقك؛ لكنك تفقد درجة العفو والصفح التي هي أعلى منزلة وأجرًا عند الله.
وختامًا أخي الحبيب، تذكَّر أن الدنيا دار ابتلاء، وأن الظلم الذي وقع عليك هو في حقيقته هدية إلهية؛ فالله يرفعك درجاتك ويكفِّر عنك سيئاتك بسبب صبرك وجهادك لنفسك.
فوِّض أمرك لله عز وجل، واجعل شعارك: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [سورة غافر: 44]. واعلم يقينًا أن حقك لن يضيع عند الله.
اسعَ في عملك بإتقان وتركيز، ولا تجعل هذا الموقف يسرق منك طاقتك وسكينتك. سامِح لتحرر قلبك من أسر الحقد والغل، ولتكسب الأجر الذي لا يقدَّر بثمن، وهو أجر العافين المحسنين.
وفقك الله لكل خير، وألهمك رشدك، وجعل ما أصابك من ظلم في ميزان حسناتك.
روابط ذات صلة:
هل لي أن أدعو في الحج على مَن ظلمني؟ وهل ينقص أجري؟