الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : الأخلاق والمعاملات
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
144 - رقم الاستشارة : 2383
16/08/2025
أحاول الابتعاد عن الجلسات المختلطة والخالية من ذكر الله خوفًا من الغيبة والمعاصي. لكنني بدأت أشعر بالعزلة والفراغ بسبب هذا الاعتزال.
سؤالي: هل الأفضل أن أستمر في الاعتزال أم أن أخالط الناس؟
وما هي الضوابط الشرعية للاعتزال المشروع؟
أرجو منكم الإجابة والدعاء لي بالثبات. جزاكم الله خيرًا.
مرحبًا بك أيها الزائر الكريم، وشكرًا جزيلًا على ثقتك فينا، ومراسلتك لنا، وأسأل الله أن يبارك فيك وفي حرصك على طاعته، وأن يثبتك على الحق، ويُعينك على كل خير، وأن يُلهمك الرشد والصواب، وبعد...
فما أعظم هذا الصراع الذي تخوضه! وما أشده وأصعبه! ولكنه –أخي الحبيب- مع ذلك، يسير على من يسره الله عليه.
إنه صراع بين الرغبة في القرب من الله والابتعاد عن مواطن الفتنة في مخالطة البشر، وبين حاجة فطرية في نفس كل منا للانتماء والتواصل مع الناس ومعاشرتهم. وأطمئنك بأن هذا الصراع ليس ضعفًا فيك، بل هو دليل قوة وإيمان ويقظة قلب.
أيهما أفضل: الاعتزال أم المخالطة؟
هذا السؤال لا توجد له إجابة واحدة تناسب الجميع. فالأمر يعتمد على طبيعة حالك، وعلى البيئة التي تعيش فيها. ولقد جاءت الشريعة الإسلامية بالوسطية والاعتدال في كل شيء، فلا هي تدعو إلى الانعزال التام، ولا هي تحث على الخلطة غير المنضبطة.
لا شك في أن الاختلاط بالناس له فوائد عظيمة، فهو يفتح أبوابًا للتعاون على الخير، والتعلم، والدعوة إلى الله، وقضاء الحوائج. وقد قال رسول الله ﷺ: «المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم» [رواه الترمذي]. وهذا الحديث النبوي الشريف يحثنا على الاختلاط الإيجابي الذي يؤتي ثماره، بشرط الصبر على ما قد نواجهه من أذى أو مشقة.
أما الاعتزال، فهو ليس بالضرورة تركًا للناس بالجملة. فما تشعر به من عزلة وفراغ، قد يكون علامة على أن قلبك لم يجد بعدُ من يؤنسه على طاعة الله. إن الاعتزال المشروع هو الابتعاد عن المجالس التي تغلب عليها المعاصي، والبعد عن رفاق السوء الذين لا يُعينون على ذكر الله، أو يجرونك للمعصية، وليس معناه أن تنعزل عن العالم وتترك من حولك.
لقد عاش الصحابة الكرام في مجتمعاتهم، وكانوا يخالطون الناس، ويُصلحون من فسادهم، ويُعلمونهم الدين. ولنتأمل قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفسًا، ثم ذهب إلى عابد يسأله عن توبته، فأخبره بأنه لا توبة له، فقتله. ثم ذهب إلى عالم، فسأله عن توبته، فقال له: «ومن يحول بينك وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسًا يعبدون الله فاعبد الله معهم» [رواه مسلم].
فهذه القصة العظيمة التي قصها علينا النبي ﷺ تؤكد أن الصديق الصالح والبيئة الصالحة هما خير عون على الثبات والعودة إلى الله. وقد قال عز وجل: ﴿واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ ولا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتَّبَعَ هَوَاهُ وكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28].
الاعتزال المشروع
الاعتزال لا يكون أبدًا غاية عبادية في حد ذاته، بل هو وسيلة لحماية القلب والروح من الانجراف في المعاصي إن احتجتها. فإذا كانت المجالس التي تحضرها تغلب عليها المعاصي، فمن الأفضل أن تبتعد عنها. وهذا هو الاعتزال المشروع.
وعمومًا -أخي الفاضل- أنصحك إن اضطررت لمخالطة الناس وحضور مجالسهم، فلا تجعل من نفسك مجرد متلقٍّ، بل كن شخصًا مؤثرًا إيجابيًّا. إذا سمعت غيبة، فدافع عن أخيك المسلم، وإذا رأيت منكرًا فانصح بالحكمة والموعظة الحسنة. لا تجعل الصمت يسيطر عليك خوفًا من المواجهة، فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف.
وختامًا، لا تدع العزلة والفراغ يتسللان إلى قلبك؛ فالفراغ قد يفتح أبوابًا لوساوس الشيطان تكون أشد على دينك من المخالطة.
أسأل الله أن يشرح صدرك، وأن ييسر أمرك، وأن يثبتك على الحق والخير، وأن يجعلك من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.