الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : الأخلاق والمعاملات
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
38 - رقم الاستشارة : 2933
11/10/2025
أنا بنت ملتزمة بفضل الله، ومحافظة على ديني، لكن البيئة اللي أنا فيها صارت مرَّة تستهزئ بالدين وبالملتزمين. أي أحد يبي يطبق سنة أو يتمسك بشيء يوصفونه فورًا بالتشدد أو التزمت، وصار عندي خوف حقيقي من إني أنعزل اجتماعيًّا أو أتعرض للتنمر لو أظهرت التزامي بالكامل، فصرت أتحفظ وأخاف أتكلم في الدين.
فكيف أقدر أوازن بين إني أتمسك بديني صح وما أتنازل عن ثوابتي، وبين إني ما أصير منبوذة أو غريبة في المجتمع، وأحافظ على إيماني ما يضعف أو يساير الباطل؟
دلوني على الطريقة الشرعية والعملية الصحيحة للتعامل مع هالوضع الصعب.
جزاكم الله خير.
مرحبًا بك ابنتي الكريمة، وأسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، أن يثبّتك على الحق، وأن يحفظ لك دينك وإيمانك، وأن يجعل لك من كل ضيق مخرجًا، ومن كل هم فرجًا، وأن يرزقك السعادة والطمأنينة في الدنيا والآخرة، وبعد...
فكم هو مؤلم أن تجدي نفسك في بيئة لا تُقدِّر التزامك؛ بل وربما تستهزئ به، ولكن في الوقت ذاته، كم هو جميل أن يكون في قلبك هذا الحرص الشديد على دينك وعقيدتك. هذا الشعور بالخوف من التنازل، مع الرغبة في عدم الانعزال، هو شعور إنساني ونفسي يُعبِّر عن فطرة سليمة ورغبة في الجمع بين خيرَي الدنيا والآخرة.
ولقد قال النبي ﷺ: «بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء» [رواه مسلم]. وهذه الغربة هي وسام شرف، ودليل على التمسك بالحق عندما يتخلى عنه الكثيرون.
تمسكي بالثوابت ولا تتنازلي
إن تمسكك بدينك هو رأس مالك، وهو الحبل المتين الذي يربطك بالنجاة. فواجبك الأول هو الحفاظ على الثوابت التي لا يجوز التهاون فيها أبدًا، ولا يجوز لومك أو التنمر عليك بسببها.
تيقني بأن العزَّة لله ولرسوله وللمؤمنين
لا تدعي كلمات أو نظرات الاستهزاء تُزعزع ثقتك في أنك على الحق. تذكري دائمًا وعد الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [سورة المنافقون: 8]. إن شعورك بالخوف من التنمر يجب أن يُقابل بيقين أشد، بأن المؤمن هو الأعز والأقوى بحب الله ودعمه.
لا تسايري الباطل ولا تجامليه
التنازل خطوة خطوة هو مدخل الشيطان الأكبر. فلا تسايري الباطل بالصمت المذل عندما يتطلب الأمر البيان، أو بترك السنن المؤكدة خوفًا من كلام الناس. فما يُرضي الله مقدَّم على ما يُرضي الناس، وتذكري قول النبي ﷺ: «من التمس رضا الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس» [رواه الترمذي].
تفقهي في دينك:
هذا الفقه ضروري للتمييز بين الثوابت والمتغيرات، وبين الفرائض والسنن. فالثوابت والفرائض لا يُستغنى عنها (مثل الصلوات الخمس والحجاب الشرعي) فيجب عليك الثبات عليها والجهر بها بالقدر الذي يحفظها، وهناك سنن ومستحبات يمكن التلطف في تطبيقها حسب الموقف وحاجتك إلى المداراة، دون تركها بالكلية. فالفقه يجعلك تفرِّقين بين ما يجب أن تُجاهدي نفسك والمجتمع لأجله، وما يمكن التغاضي عن إظهاره علانيةً لمصلحة أكبر، كأن تُؤجلي تطبيق سنة غير مشهورة إلى وقت الانفراد، أو تقومي بها بهدوء دون لفت نظر، ما دام لم يترتب على تركها الوقوع في محرم.
متى يكون "ستر الالتزام" حكمة؟
يُعدُّ «ستر الالتزام» حكمة في حالتين:
* ستر النوافل والتطوع: فالأصل في النوافل هو الإخفاء، لما فيه من تحصين للنية وإخلاص لله تعالى، ولتجنب الرياء. قال النبي ﷺ: «أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة» [رواه البخاري]. فإذا كنتِ تخشين على نفسك من الاستهزاء أو الرياء بسبب إظهار بعض السنن، (مثل صلاة الضحى أو كثرة الذكر)، فالأفضل إخفاؤها، وهذا ليس مسايرة للباطل؛ بل هو حكمة لحفظ القلب.
* المداراة لتجنب مفسدة أكبر: إذا كان إظهار سنة ما سيؤدي إلى مفسدة أكبر، كأن يضرك أو يعرضك للتنمر المفرط الذي لا تستطيعين تحمله، وكان هذا الإخفاء لا يتطلب فعل محرم أو ترك واجب، فيجوز إخفاء بعض الأعمال أو التلطف في إظهارها درءًا للمفسدة. وهذا من باب فقه الموازنات.
متى يكون «ستر الالتزام» مسايرة للباطل؟
يصبح «ستر الالتزام» مسايرة للباطل وتنازلًا مذمومًا في حالتين:
* ستر الواجبات والفرائض: فلا يجوز أبدًا أن تتنازلي عن إظهار الواجبات، كالصلاة في وقتها، أو اللباس الشرعي الواجب (الحجاب). فترك الجهر بالواجبات خوفًا من الناس هو ضعف في الإيمان وتقديم للخَلق على الخالق.
* فعل المحرمات أو ترك الإنكار عند القدرة: إذا أدى بك الخوف إلى ارتكاب ما يُغضب الله، فهنا تكون المسايرة للباطل التي لا تجوز. فالحد الأدنى هو الإنكار بالقلب والابتعاد عن مكان المعصية، قال تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكمْ فِي الْكتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ [سورة النساء: 140].
والخلاصة في هذا الأمر: أظهري ما أمر الله بإظهاره (الفرائض)، وأخفي ما يُخشى عليه من الرياء والفتنة (النوافل)، وتلطفي في الإظهار بالقدر الذي يحفظ دينك ونفسك.
الموازنة بين الثبات وعدم الانعزال
الشرع الحنيف يدعونا إلى الحكمة والمداراة، فالإسلام دين وسطية واعتدال، لا يُحب الرهبنة والانعزال الكامل، ولا يُحب الذوبان في المجتمع الباطل. وإليك مفاتيح هذه الموازنة:
* القدوة الحسنة:
أفضل طريقة للتعامل مع الاستهزاء هي أن يكون التزامك شاملًا لا سطحيًّا. اجعلي أخلاقك الطيبة ومهاراتك وكفاءتك هي لسان حالك الذي يتحدث عن جمال الدين.
* الكفاءة والإتقان:
كوني الأكثر كفاءة وإتقانًا في أي مكان تكونين فيه. فعندما يُنظر إليك كشخصية ناجحة ومؤثرة ومهنية، فإن الناس سيحترمون التزامك لا محالة، فالعين تحترم اليد الماهرة والعمل المتقن.
* الخلق الحسن واللباقة:
عاملي الجميع بأفضل الأخلاق، وبالكلمة الطيبة، والمساعدة، والرحمة. فبهذه الأخلاق، تُزيلين عنهم صورة «المتزمتة» وتثبتين لهم أن الالتزام هو مصدر الحكمة والطيبة.
* المداراة لا المداهنة:
هناك فرق كبير بين المداراة والمداهنة؛ فالمداهنة هي التنازل عن الدين لمجاملة الناس وإرضائهم، وهذا مُحرَّم. أما المداراة فهي بذل الدنيا لإصلاح دينك ودين الآخرين، ولتجنب شرهم، وهي جائزة؛ بل ومستحبة.
* البحث عن صحبة صالحة:
* الصحبة الصالحة هي صمام الأمان، يقول الله عز وجل: ﴿واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ ولا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتَّبَعَ هَوَاهُ وكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [سورة الكهف: 28]. فلا تنعزلي عن مجتمعك بالكلية، لكن انتقي منه مجموعة من الأخوات الطيبات (حتى لو كنَّ قليلات) في نفس بيئتك، واجعلي وقتك الخاص معهن هو المغذِّي لروحك.
* التعامل مع الاستهزاء بحزم ورفق:
إذا تعرضتِ لموقف فيه استهزاء صريح بالدين، فالحزم مطلوب مع الرفق في التعبير: فإذا كان استهزاء صريحًا بأمر قطعي، فيجب أن تُظهري غضبك لله ورفضك بوضوح، ولكن بهدوء ووقار. تذكري قوله تعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ﴾ [سورة الأنعام: 68]. اعتذري عن الاستمرار في الحديث وغادري المكان برفق ووقار، فهذا الموقف يُظهر قوة ثباتك واحترامك لدينك دون الانزلاق في جدال عقيم.
أما إذا كان مجرد وصف لك بـ«المتشددة» أو «المتزمتة»، فلا تتأثري. ابتسمي بهدوء وقولي مثلًا: «أنا أسعى للالتزام بأوامر ربي قدر استطاعتي»، أو: «أسأل الله أن يرزقني وإياكم التوفيق لما يحبه ويرضاه». بهذه الإجابة الهادئة، تحبطين محاولتهم إثارة غضبك، وتُنهين النقاش.
وختامًا يا ابنتي، إن إيمانك هو مصدر قوتك، لذا استعيني بالله، واجعلي الدعاء سلاحك الأول، واطلبي من الله الثبات والسكينة، وادعي لمن حولك بالهداية. وحافظي على وردك من القرآن والذكر، فهما الحصن الحصين من وساوس الشيطان ومن خوف الناس. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [سورة الرعد: 28].
أسأل الله أن يجعلك من الثابتات على دينه، وأن يُعلي قدرك في الدنيا والآخرة.
روابط ذات صلة:
كيف يتعامل الدعاة مع السخرية والاستهزاء؟