الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : الأخلاق والمعاملات
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
63 - رقم الاستشارة : 2655
11/09/2025
كلما اشتريت شيئًا جديدًا أو حظيت بترقية أو زيادة في المال، شعرت بسعادة مؤقتة، ثم أعود لحالة من الفراغ الداخلي والرغبة في شيء جديد.
ألاحظ أنني أصبحت أُسرف في التسوّق، وأربط سعادتي بالماديات رغم محاولاتي الاستغناء.
كيف أعرف أن كان هذا التعلّق قد جاوز الحد المشروع؟
وما هي علامات الزهد الحق في زمن تهيمن فيه المظاهر؟
مرحبًا بك أخي الكريم، نُقدّر ثقتك بنا وتواصلك معنا، سائلين المولى -عز وجل- أن يشرح صدرك، ويُجلي همَّك، ويهديك إلى ما فيه الخير في الدنيا والآخرة، وبعد...
فنحن في زمنٍ كثُرت فيه الملهيات وطغت فيه الماديات، وشعورك هذا يمر به كثيرون، فنحنُ بطبيعتنا نسعى إلى الكمال، وإلى ما يملأ فراغ أرواحنا، لكن قد نُخطئ الطريق أحيانًا، ونظن أننا سنجد ذلك الكمال في امتلاك المزيد، بينما هو في الحقيقة في الاستغناء والتحرُّر.
الحد المشروع للتعلُّق بالماديات
أخي الكريم، إنّ امتلاك المال والتنعُّم بنعم الله أمر مشروع ومستحب، فالإسلام لا يدعو إلى الفقر أو حرمان النفس من الطيبات؛ بل يوازن بين احتياجات الروح والجسد.
والتعلُّق بالماديات يتجاوز الحد الشرعيّ عندما يتحوّل من وسيلة إلى غاية، وعندما تبدأ هذه الماديات في السيطرة على حياتك ومشاعرك. وإليك بعض العلامات التي قد تدلُّ على ذلك:
- السعادة المؤقتة والفراغ الدائم: كما ذكرتَ في سؤالك، تشعر بسعادة مؤقتة يتبعها فراغ ورغبة في المزيد. هذا الشعور يُشبه العطش الذي لا يُروى؛ لأنّك تسعى لملء فراغ روحي بشيء مادي، وهذا مُحال. قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا﴾ [طه: 124]. إنّ هذه المعيشة الضنك لا تعني بالضرورة الفقر المادي؛ بل قد تعني ضيق الصدر وعدم الرضا رغم وفرة المال؛ لأن القلب لم يجد سعادته الحقيقية.
- الإسراف والتبذير: الإسراف في الشراء غير الضروري، والإنفاق المُبالغ فيه، هو علامة واضحة على أن النفس تحاول أن تُعوِّض نقصًا ما. وقد نهى الله -سبحانه وتعالى- عن ذلك بقوله: ﴿... وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ...﴾ [الإسراء: 26 و27]. إنّ هذا التبذير ليس مجرَّد خطأ مالي؛ بل هو انحراف روحي يشير إلى عدم تقدير نعم الله والتعامل معها بغير حكمة.
- التعاسة والخوف من الفقد: إذا أصبحت تخاف من فُقدان ما تملكه خوفًا مَرَضيًّا، أو تشعر باليأس والحزن الشديد عند تلف شيء أو ضياعه، فهذا يشير إلى أنّك تعلَّقت به أكثر من اللازم. إن المؤمن يُسلِّم أمره لله، ويعلم أن كل ما يملكه هو رزق مؤقت، بينما التعلُّق المفرط يجعل الإنسان أسيرًا لما يملكه، لا سيِّدًا عليه.
- قياس القيمة الشخصية بالممتلكات: عندما تبدأ في مقارنة نفسك بالآخرين بناءً على ما يملكون، أو تشعر بأن قيمتك كإنسان تُحدَّد بسيارتك أو منزلك أو ملابسك أو هاتفك، فهذا يُعدّ علامة خطيرة على أن الماديات سيطرت على تفكيرك.
إن قيمة الإنسان الحقيقية تكمن في أخلاقه وعمله الصالح، لا في ممتلكاته. قال رسول الله ﷺ: «إنّ الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» [رواه مسلم].
علامات الزهد الحق
الزهد ليس الفقر ولا حرمان النفس؛ بل هو تحرير القلب من سيطرة الدنيا، هو أن تكون الدنيا في يدك، لا في قلبك. والزهد الحقيقي في هذا العصر الذي تهيمن فيه المظاهر هو تحدٍّ كبير؛ لكنه ليس مستحيلاً. وإليك بعض علاماته:
- القلب المطمئن الراضي: الزاهد هو من يشعر بالرضا والسكينة في جميع أحواله؛ سواء أكان غنيًّا أم فقيرًا. فقلبه مُعلَّق بالله، لا بالمال ولا بالجاه. إنه يعلم أن الرزق من عند الله، وأن السعادة الحقيقية هي القرب منه. قال رسول الله ﷺ: «قد أفلح من أسلم ورُزِقَ كفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه» [رواه مسلم]. وقد قالوا إن «القناعة كنز لا يفنى»، وهي أساس الزهد.
- الإنفاق في سبيل الله: الزاهد لا يجمع المال من أجل التظاهر والفخر به؛ بل يجعله وسيلة للخير والعطاء. هو يُنفق بلا تردد في سبيل الله، ويعلم أن الصدقة لا تُنقص المال؛ بل تزيده. قال تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا﴾ [المزمل: 20].
- البساطة وعدم التكلُّف: الزاهد لا يتكلَّف في مظهره أو ملبسه، ولا يُرهق نفسه في مجاراة الآخرين في أمور الدنيا. هو يلبس ما يناسبه، ويقتني ما يحتاجه، دون إسراف أو مباهاة. إنه يدرك أن الأناقة الحقيقية هي في بساطة الروح، وفي نظافة القلب، لا في غلاء الثياب. وقد ورد عن النبي ﷺ قوله: «أَبشِروا وأمِّلوا ما يَسُرّكم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسط الدنيا عليكم، كما بُسِطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم» [رواه البخاري].
- الزهد في ثناء الناس: الزاهد لا يكترث لآراء الناس، لأن هدفه هو رضا الله وحده. هو لا يشتري الأشياء ليعجب بها الآخرون؛ بل يشتريها إن كان بحاجة إليها. إن سعادته لا تنبع من نظرة إعجاب في عين أحدهم؛ بل من شعور داخلي بالقرب من الله.
وختامًا أيها الأخ الكريم، إن علاج هذا الفراغ ليس في مزيد من الشراء؛ بل في مزيد من التواصل مع الذات والروح. ابدأ بالتدريج في تقليل التسوُّق، واصرف بعضًا من مالك في الصدقة، وخصِّص وقتًا للتفكُّر في نعم الله عليك.
انظر إلى ما بين يديك من نعم، من صحة وعافية، وعائلة، وستر، وستجد أنك تملك كنوزًا لا تُشترى بالمال. إن السعادة الحقيقية تكمن في قلب متعلق بخالقه، مُستغنٍ عمَّا سواه.
أسأل الله أن يُبارك فيك، وأن يملأ قلبك بنور الإيمان والسكينة.