الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : الأخلاق والمعاملات
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
99 - رقم الاستشارة : 2601
03/09/2025
أُحب أن أُظهر بمظهر المثالي أمام الجميع، وأخشى أن يراني أحد في حالة ضعف أو تقصير.
أشعر بإرهاق من هذا التكلُّف، هل هذا رياء؟ وهل الأفضل أن أكون على طبيعتي حتى لو بدا ذلك دون المستوى؟
مرحبًا بك أخي الكريم، وشكرًا جزيلًا على ثقتك بنا، وأسأل الله أن يفتح عليك أبواب الخير، وأن يُنير بصيرتك، ويُسدد خُطاك لما فيه صلاح دينك ودنياك، وبعد...
فإن مشاعرك هذه فطرية وطبيعية، وكلنا نمر بها في لحظات ما؛ حيث تعكس الرغبة في أن نكون محبوبين ومقبولين، وأن نترك انطباعًا جيدًا لدى الآخرين. ولكن عندما يتحول هذا السعي إلى عبء وإرهاق، ويصبح هاجسًا يمنعنا دائمًا من أن نكون على طبيعتنا، هنا يجب أن نتوقف ونتأمل.
هل الحرص على المثالية رياء؟
إن الرياء هو إظهار العبادة أو العمل الصالح للناس من أجل نوال مدحهم، وليس لوجه الله. هدفه الأساسي هو الحصول على المكانة في قلوب الخلق، وهذا ما يفسد العمل ويُبطل أجره. يقول الله –تعالى- في وصف المنافقين: ﴿يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 142].
أما ما تتحدث عنه أنت، فهو أقرب إلى الشعور بالضغط الاجتماعي، أو الخوف من حكم الآخرين. أنت لا تريد إظهار العمل الصالح من أجل مدحهم؛ بل أنت تخشى أن يراك الناس في حالة ضعف أو تقصير، مما قد يؤثر على نظرتهم إليك. وهذا ليس رياءً بالمعنى الشرعي الصارم، ولكنه قد يكون مدخلًا له إذا لم تُعالَج هذه المشاعر. وكذلك أنت تحاول أن تحافظ على صورة مثالية في ذهن الآخرين، وهذا الجهد المستمر هو الذي يرهقك ويثقل كاهلك.
لقد علَّمنا رسول الله ﷺ أن الإخلاص في العمل هو جوهر العبادة، وهو ما يُنجي صاحبه. جاء في الحديث القدسي: «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» [رواه مسلم].
وهذا لا يعني أن نهمل مظهرنا أو سلوكياتنا مع الناس. فالإسلام يدعونا إلى التحلي بأحسن الأخلاق، وإظهار أفضل ما عندنا من سمت، ولكن الفارق الأساسي هو النية؛ هل تفعل ذلك لله أم للناس؟
فإن كان قصدك رضا الله وحفظ صورتك كقدوة حسنة، فهذا نبل وكرامة. وإن كان قصدك كسب مديح الناس مع غياب ذِكر الله من قلبك، فهذا مدخل من مداخل الرياء.
الراحة أن تكون على طبيعتك
إن شعورك بالإرهاق من التكلف والحرص على المثالية المفرطة طبيعي؛ وقد قال ﷺ: «هلك المتنطِّعون» [رواه مسلم] أي المشدِّدين على أنفسهم بالتكلُّف.
إن الإنسان لا يستطيع أن يعيش طوال حياته بصورة مصطنعة؛ بل يحتاج أن يكون على طبيعته، مع السعي للإصلاح والتطوير بالتدرج.
فالأفضل والأكثر راحة وسكينة لك أخي الكريم، أن تكون على طبيعتك. أن تكون صادقًا مع نفسك ومع الآخرين، وأن تتقبل حقيقة أنك بشر، وأن البشر جميعًا غير كاملين.
تذكَّر أن كل إنسان على وجه الأرض له لحظات ضعف، وتقصير، وهذا ليس عيبًا؛ بل هو جزء من طبيعتنا الإنسانية.
إن السعي للكمال المطلق أمام الناس هو معركة خاسرة. ستحارب نفسك، وترهقها، وفي النهاية قد تنكشف حقيقتك، أو تصاب بالإحباط الشديد. إن أجمل ما في الإنسان هو صدقه وعفويته، وقدرته على أن يتقبل ضعفه دون خجل.
كان لدي صديق يُعاني المشكلة نفسها؛ كان يُحاول أن يظهر بمظهر الشخص الذي يعرف كل شيء، ولا يخطئ أبدًا. كان دائمًا ما يُجهد نفسه في الظهور بهذا المظهر، ويقيد نفسه بعبارات مُعدَّة مسبقًا. وفي لحظة مصارحة أخبرني عن مدى التعب الذي يشعر به، وكيف أن هذا القناع ثقيل عليه، فنصحته أن يخفف عن نفسه، وأن يسمح لنفسه بالخطأ.
في البداية كان صديقي مترددًا، ولكنه قرر أن يجرب. بعدها وجدته أكثر راحة؛ حيث لم يعد يُجبر نفسه على التظاهر بالمعرفة المطلقة؛ بل كان يقول من حين لآخر: «لا أعرف»، أو «سأبحث في هذا الموضوع». وتفاجأ بأن الناس لم يحكموا عليه سلبًا؛ بل على العكس، وجدوا فيه إنسانًا حقيقيًّا طبيعيًّا مثلهم، متواضعًا، يخطئ ويصيب، فأصبحوا أقرب إليه.
إن الصدق مع النفس ومع الآخرين هو مفتاح الراحة.
خطوات عملية للتخلص من هذا العبء:
- عزِّز ثقتك بنفسك: تذكَّر أن قيمتك ليست في نظرة الآخرين إليك؛ بل في إيمانك بالله، ثم بنفسك، وبجوهرك الصالح.
- غيِّر نظرتك للضعف: الضعف ليس عيبًا؛ بل هو جزء من إنسانيتنا. الاعتراف به والتعامل معه بصدق هو جزء من القوة.
ليس المطلوب أبدًا أن تنكشف للناس بكل ضعفك وزلَّاتك، فذلك ليس محمودًا؛ بل قد يفتح باب استهانة أو إسقاط للقدوة. المطلوب أن تكون طبيعيًّا في تعاملك، ولا تحمِّل نفسك فوق طاقتها. لا تكشف كل ضعفك أمام الناس؛ بل عالج ما في الخفاء في الخفاء، وما في العلن في العلن.
- ركِّز على الإخلاص لله: اجتهد في أن تجعل عملك كله خالصًا لوجه الله. لا تبتغِ به مدحًا من أحد. جدِّد نيتك دائمًا وادعُ الله: «اللهم اجعل عملي كله صالحًا، ولوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا».
- اكتشف مَن حولك: إذا نظرت فيمن حولك من الناس، كل الناس، فستجد أنه ما من أحد إلا وفيه مزايا تميزه عن غيره، وفيه أيضًا عيوب قد لا تكون في غيره، وأن أكثرهم راحة وثقة هم الذين لا يخشون أن يكونوا على طبيعتهم، ويعترفون بالتقصير والنقص الطبيعي لديهم.
وختامًا أخي العزيز، أسأل الله أن يشرح صدرك، ويعينك على الإخلاص، وأن يجعلك قدوة طيبة في حياتك، بلا تكلُّف ولا رياء، وأن يريك جمال القبول عنده قبل القبول عند الناس.