الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : الأخلاق والمعاملات
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
80 - رقم الاستشارة : 2771
25/09/2025
أنا بطبعي إنسان حييٌّ حليم، وأميل لتجنب المشاكل قدر الإمكان.
في حياتي اليومية، سواء مع الأهل أو الأقارب أو حتى في العمل، أواجه كثيرًا من المواقف التي أُهان فيها بالكلام الجارح، أو حتى بالتلميح الذي أحسّ معه أن كرامتي تُمسّ. وقتها، أُفضّل السكوت، إما حياءً منهم أو عشان ما أكبر الموضوع وأتجنب المشاكل. لكن بعد ما يخلص الموقف، أحسّ بضيق وقهر كبير، وأقعد ألوم نفسي وأحسّ أني ضعيف، وأني فرّطت في حق نفسي وكرامتي.
فهل الصبر وكظم الغيظ في مثل هذه المواقف يُعتبر ضعفًا؟
ومتى يكون الرد على الإساءة والدفاع عن النفس واجبًا شرعيًا لا يجوز التفريط فيه؟
وكيف أقدر أوازن بين خلق الحلم الذي أمرنا به ديننا، وبين الدفاع عن حقوقي وكرامتي، بحيث ما أكون شخصًا ساذجًا يُستغل، ولا أكون في نفس الوقت شخصًا شديد الانفعال؟
أهلًا وسهلًا بك أيها السائل الكريم، وأشكرك على ثقتك بموقعنا، وأسأل الله أن يبارك فيك، ويشرح صدرك، ويُجلي همك، ويُحسن حالك، وبعد...
فإن من معاركنا التي نخوضها في الدنيا، محاولة تحقيق التوازن بين أخلاق الإسلام الرفيعة وبين الحفاظ على كرامة النفس التي كرَّمها الله. وإن الصبر وكظم الغيظ في ذاتهما ليسا ضعفًا، بل هما قوة، ولكن لهما مواضع وضوابط.
الفارق بين القوة والضعف
إنّ الصبر على الأذى وكظم الغيظ من أعظم أخلاق المؤمنين، وقد أثنى الله على أهلهما في كتابه الكريم: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران: 134]. وهذا الخلق النبيل يدل على قوة نفسية هائلة، وقدرة على السيطرة على الانفعالات، فهو ليس ضعفًا ولا عجزًا؛ بل هو قمة القوة. يقول الرسول ﷺ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ» [رواه البخاري].
أما شعورك بالضيق والقهر بعد السكوت، فيدل على أن هذا الصبر لم يكن عن قناعة ورضا؛ بل كان عن حياء أو لتجنب المشكلات، وهذا يختلف.
إن صبر المؤمن يكون لوجه الله ابتغاءً لأجره، أما السكوت الذي يُورث الشعور بالظلم والضعف، فقد لا يكون صبرًا محمودًا؛ بل قد يكون تفريطًا في الحق، وهذا هو الفارق.
متى يكون الرد واجبًا؟
إنّ الله -سبحانه وتعالى- أباح للمظلوم أن ينتصر لنفسه؛ بل جعل ذلك حقًّا مشروعًا لا غضاضة فيه: ﴿لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا﴾ [النساء: 148]. فهذه الآية الكريمة تبيح للمظلوم أن يجهر بالقول السيئ إذا كان بقصد الرد على من ظلمه؛ لا بقصد الفحش.
ويكون الرد على الإساءة والدفاع عن النفس واجبًا في حالات عدة، منها:
1. إذا كان السكوت يؤدي إلى استمرار الإساءة والظلم: فإن تكرار السكوت قد يجعل المعتدي يتمادى في ظلمه، ويظن أنك لا تملك القدرة على الرد، فيتحول إلى عادة عنده. هنا يصبح الدفاع عن النفس واجبًا لحماية كرامتك.
2. إذا كانت الإساءة تمسُّ دينك أو عرضك: لا يجوز السكوت على من يطعن في دينك أو يلمز في عرضك؛ بل يجب الرد عليه.
3. إذا كان السكوت يؤثر على نفسيتك بشكل سلبي ومستمر: إن القهر الذي تشعر به يدل على أن السكوت قد أضرَّ بنفسك، والنفس لها حقوق، من أهمها الحفاظ على كرامتها.
4. إذا كان الرد لتعليم المعتدي أو ردعه: الرد الحكيم قد يكون سببًا في إيقاظ المعتدي من غفلته، وتذكيره بأن له حدودًا يجب ألا يتجاوزها.
التوازن بين الحلم والدفاع عن النفس
لتحقيق هذا التوازن، أنصحك بالتالي:
1. تحديد النية: قبل أن ترد، اسأل نفسك: هل ردِّي هذا من أجل الانتقام، أم من أجل الدفاع عن حقي؟ إن كان من أجل الانتقام، فكظم الغيظ أفضل. وإن كان من أجل الدفاع، فتوكل على الله.
2. الرد بحكمة دون انفعال: الرد لا يعني الصراخ ولا السب؛ بل قد يكون بكلمة واحدة حاسمة أو بنظرة حازمة.
3. تمييز المواقف: ليست كل إساءة تستحق الرد. فالإساءات التي تأتي من جهل أو قلة وعي قد نقابلها بالتجاهل أو بالإشارة اللطيفة. أما الإساءات المتعمدة التي تستهدف كرامتك، فلك الحق في الرد عليها.
4. التدريب العملي: ابدأ بمواقف بسيطة، لا تلُم نفسك على ردود الفعل السابقة؛ بل تعلم منها. ابدأ بوضع حدود واضحة في علاقاتك، وعبِّر عن رأيك بهدوء.
وختامًا أخي العزيز، إن الله يريدك أن تكون عزيزًا بقوته، كريمًا بكرمه: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 139]. فتعلَّم كيف تدافع عن نفسك بحكمة وذكاء، واعلم أن قوتك الحقيقية تكمن في قدرتك على التمييز بين متى تصبر ومتى ترد. أسأل الله أن يرزقك الحكمة في القول والفعل، وأن يوفقك لكل خير.
روابط ذات صلة: