الإستشارة - المستشار : د رمضان فوزي
- القسم : إيمانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
18 - رقم الاستشارة : 1091
20/02/2025
بسم الله الرحمن الرحيم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. أطمع إخوتي الكرام وأطمح أن تكتبوا كلمات إلى أم الشهيد (والدة زوجي) حتى تعينها على الصبر؛ فهي منذ استشهاده وإلى الآن تبكي بشدة وحرقة ولا تقوم بأي عمل. وقد قام الجميع من الأهل والأصحاب بحثها على الصبر وقراءة القرآن، ومن حين لآخر يتم فتح شريط القرآن كل يوم على مسامعها لكن دون جدوى، صحتها في تدهور مستمر.. كيف نستطيع أن نخرجها مما هي فيه؟ لا نعلم.. فنحن ندعو لها دوما بالصبر والاحتساب عند الله عز وجل.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
أهلا وسهلا بك أختي الكريمة، ثبت الله يقينك أنت وجميع أهلنا في غزة ممن فقدوا أحبتهم وأعانكم على تخطي ما أنتم فيه من شدة وبلاء، ونسأله تعالى أن يكتب لنا بهذه الكلمات أجر المجاهدين؛ فإن حُرمنا الجهاد بالسنان فنسأله تعالى أن يجعلنا من المجاهدين باللسان.
بالنسبة لأم الشهيد أختي نسأل الله -عز وجل- أن يعينها وأن يثبتها على فقد عزيزها وفلذة كبدها؛ فهذه عاطفة وفطرة لا يمكن إغفالها، ولكن علينا أن نحول هذه العاطفة لديها إلى سبيل للحصول على الأجر والثواب من الله؛ فنعرفها أنه على قدر أولي العزم تأتي العزائم، وعلى قدر اللوعة والألم والصبر على فراق الحبيب يكون الأجر والثواب من الله تعالى.
وأرى أن دوركم في هذه المرحلة يحتاج إلى بعض الصبر وعدم الاستعجال عليها؛ فالزمن جزء من العلاج، ومرور الوقت كفيل بإخراجها مما هي فيه، ولكن كونوا قريبين منها، ولا تتركوها منفردة كثيرا، وأوصوا المقربين إليها بكثرة زيارتها والتردد عليها، واستعينوا على كل ذلك بالدعاء لها مع بعض الفطنة والذكاء في نصحها؛ فلا داعي لكثرة الإلحاح والكلام المباشر في هذا الأمر.
واسمحي لي أختي أن أتوجه لهذه الأم قائلا:
1. احمدي الله عز وجل أن منحك هذا الشرف الذي تتبارى إليه الكثير من الأمهات لديكم في فلسطين؛ فكم من الأمهات نراهن على الشاشات يستقبلن زفاف أبنائهن إلى الحور العين بالزغاريد والتهاني.
2. احمدي الله عز وجل أن اختار ابنك واتخذه شهيدا؛ فالشهادة انتقاء واختيار من الله تعالى، كما أخبر عز وجل {ويتخذ منكم شهداء}. وكم يهفو الكثير منا إلى هذا الشرف والاختيار.
3. احمدي الله عز وجل أن جعل من ابنك سيفا على رقاب الأعداء؛ فكم من الشباب خانوا وطنهم وارتموا في أحضان هؤلاء الأعداء.
4. احمدي الله عز وجل أن جعل فقدك لابنك في هذا الشرف العظيم؛ فكم من الأمهات فقدن أولادهن في غير هذه الميتة العظيمة.
5. احمدي الله عز وجل أن جعل لك شفيعا يشفع لك ولسبعين من أهله؛ فيدخلون الجنة حتى ولو لم يكونوا يعملون مثل عمله؛ فابنك سبقكم من دار الفناء ليجمعكم معه في دار الخلود والبقاء.
6. احمدي الله عز وجل أن استجاب لابنك دعوته وحقق له أمنيته التي فيها سعادته؛ فماذا تريد الأم بعد سعادة ابنها؟ حتى وإن كان في ذلك بعض الألم واللوعة التي سرعان ما تزول بمجرد اللقاء في دار السلام.
7. احمدي الله عز وجل أن جعل لك أبناء كثيرين غير ابنك؛ فثقي أننا جميعا أبناؤك، حتى وإن لم نكن في درجة ولدك الذي من رحمك.
8. احمدي الله عز وجل أن جعل لابنك امتدادا من عقبه، لعل الله يجعل منه بعض السلوى لكم عن فقد أبيه.
أماه.. إن ابنك قدم روحه رخيصة وجاد بدمائه من أجل دينه وابتغاء مرضاة ربه، ومن أجل أن يعيش شعبه وأمته في عزة وفخار؛ فارفعي رأسك، واكسري عزلتك، واحتسبي ولدك عند ربك فداء لدينه ووطنه، وعيشي حياتك راضية بقضاء الله وقدره، منتظرة الأجر والثواب من الحليم المنان.
أماه.. إن الحياة الدنيا فانية قصيرة، وإن الآخرة خير وأبقى، وإن الإنسان مهما عاش فلا بد من الموت، ومهما طال عمره فهو قصير، وقد أخبرنا المصطفى –صلى الله عليه وسلم-: "أتاني جبريل، فقال: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه" (الحاكم في المستدرك والبيهقي في شعب الإيمان)؛ فالفراق في الدنيا سنة كونية؛ فاحمدي ربك أن جعل فراق ابنك في الحياة الفانية سببا في تجميعكم إن شاء الله في الحياة الباقية.
أماه.. إننا لا ننكر عليك عاطفتك وما تعانين منه، ولكن عليك أن تصارحي نفسك بأن ابنك قد مات وأن حزنك عليه لن يرجعه مرة أخرى، وأن عليك أن تنظري إلى غدك وغد أبنائك وحفيدك ابن الشهيد، واضعة نصب عينيك قول الله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}، ممتثلة قول الرسول الكريم –صلى الله عليه وسلم-: "عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر وكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له" (أحمد في مسنده)؛ فحال المؤمن دائما لا تخرج عن الشكر والصبر، وهما مناط الخيرية له.
وهذه بعض الأمور التي يمكنك أن تقومي بها حتى تخففي عن نفسك ما أنت فيه، وحتى تعينك على الصبر والرضا:
1- أكثري من التعرف على فضل الشهيد وما أعده الله له من الأجر العظيم والثواب العميم؛ فمعرفة ما فيه ابنك الآن سيهون عليك الأمر كثيرا.
2- أكثري من التعرف على أجر الصبر على البلاء وما وعد الله عباده الصابرين على بلائه؛ فمعرفة أجر الشيء دافعة للقيام به والحرص عليه.
3- تذكري دائما أن ما حدث إنما هو بعلم الله وتقديره، وهو سبحانه بيده مقاليد أمور الخلائق وتصاريف أقدارهم؛ فهذا يبعث على الطمأنينة والسكينة في النفس وحسن قبول قضاء الله وقدره.
4- التواصل مع بعض الأمهات اللاتي استشهد أبناؤهن، ووثقن علاقتكن؛ فالمشاركة في الألم يخفف من وطئته بعض الشيء.
5- المشاركة والاندماج في بعض الأعمال الخيرية المجتمعية مثل زيارة بعض الأيتام والفقراء وتوزيع بعض الحاجيات عليهم.
6- تابعي قصص الاستشهاديين الذين تتوالى أخبارهم كل يوم؛ فما أكثر شهداء أمتنا في هذا الوقت الذي تكالب عليها الأعداء.
إن في ذلك لعبرة؛ وفي تاريخنا الإسلامي وحاضرنا نماذج مشرقة ومشرفة لأمهات دفعن أولادهن للجهاد والاستشهاد في سبيل الله، لما قوي الإيمان في قلوبهن ولما علمن ما أعده الله للمجاهدين والمدافعين عن دينه والشهداء من أجل إعلاء كلمته.
ومن هؤلاء المؤمنات الخنساء التي مات صخر أخوها قبل إسلامها فظلت تنعيه وتبكي عليه حتى فقدت بصرها، ولكن بعد إسلامها دفعت أبناءها الأربعة للجهاد والاستشهاد، وكانت وصيتها لهم: "يا بني، إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}".
وعندما بلغها خبر استشهاد أبنائها لم تجزع ولم تبك، ولكنها صبرت، وقالت قولتها المشهورة: "الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته".
والمثال الثاني الذي أسوقه لك هو السيدة أسماء بنت أبي بكر أم عبد الله بن الزبير –رضي الله عنهما- فقد دخل عليها ابنها، بعد أن خذله أنصاره مستيئسين من النصر على الحَجاج، وناداه الحجاج ليقبل الأمان ويدخل في طاعة أمير المؤمنين، فقال لها: "إن هذا -يعني الحجاج- قد أمَّنني". قالت: "يا بني، لا ترضَ الدنية؛ فإن الموت لا بد منه". قال: "إني أخاف أن يمثََّل بي"، قالت: "يا بني ما يضير الشاة سلخها بعد ذبحها".
عندئذٍ خرج فقاتل قتالا باسلا حتى استُشهد! وأقبل عليه الحجاج فحز رأسه، ثم بعث بها إلى عبد الملك بن مروان، وصلبه منكسًا، وعظم الأمر على أمه أسماء -وكان قد ذهب بصرها- فخرجت إلى الحجاج مع بعض جواريها، فلما دخلت عليه قالت: أما آن لهذا الراكب أن ينزل (تقصد ابنها عبد الله)؟ فقال الحجاج: المنافق؟ فقالت: لا واللَّه ما كان منافقًا، سمعتُ رسول اللَّه يقول: "يخرج في ثقيف كذاب ومُبير (قاتل). فأما الكذاب فقد رأيناه -تقصد المختار الثقفي- وأما المبُِير فأنت هو".
ثم جاء كتاب عبد الملك بن مروان بإنزال ابنها من الخشبة ودفعه إلى أهله، فغسلتْه أمه أسماء وطَـيَّـبَـتْـهُ، ثم دفنتْه.
فيا أم الشهيد المنكوبة ويا زوجة الشهيد المحتسبة إن فقيدكما ضحى بروحه حتى تعيشوا، وسالت دماؤه لتكون وقودا تسير بها سفينة الحياة في عباب البحر تتغلب على أمواجه المتلاطمة وتقلباته المتتالية حتى ترسو على سفينة الله رب العالمين؛ فيتلاقى الأحبة ويتجمع الأخلاء في ظل تقوى الله ورضوانه؛ حتى يأتيهم نداء ربهم" "اليوم أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا" (متفق عليه).
هذه بعض الكلمات من ابن وأخ لكما أراد أن يشارككما مصابكما وأن يخفف عنكما، داعيا الله أن يكتب لنا أجر المجاهدين، وأن يحشرنا جميعا في ظل رحمته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، ولا تنسونا من صالح دعائكم.