23 فبراير 2025

|

24 شعبان 1446

Consultation Image

الإستشارة 09/01/2025

قد تعتقدون أن مشكلتي من لون غريب حقا أكاد أسميها مشكلة اللامشكلة فأنا أستاذ جامعي في أحد جامعات الرياض .. أحب زوجتي جدا فهي شخصية هادئة رقيقة لا تعارضني في شيء ولدي ابنتين ناجحتين تزوجت كل منهما بشخص مناسب جدا.. أنا أشعر بالملل الشديد والإحباط خاصة إنني سأخرج للتقاعد هذا العام.. لي أكثر من عام وأنا أقوم بمتابعة تشطيبات فيللتي الجديدة في محاولة مني للبحث عما يخلصني من الشعور بالملل دون جدوى جربت أيضا أيضا السفر أنا وزوجتي كثيرا للعديد من البلدان والنتيجة نفسها.. أفكر جديا في الزواج الثاني وهذه الفكرة لها عدة سنوات وهي تطاردني وخطبت أكثر من مرة بالفعل ولكن لم تنجح الخطبة في كل مرة.. زوجتي لم تكن موافقة في البداية ولكنها قبلت في نهاية الأمر خاصة بعد أن أصابتها أزمة صحية تعافت منها بفضل الله بعد ذلك والآن وبعد مرور أكثر من عشر سنوات على هذه الخطبة أفكر في تكرار المحاولة لكنني لست مطمئنا وأخشى أن أظلم نفسي أو أسرتي وأخشى أن أظلم الزوجة الجديدة وفي الوقت ذاته يراودني الأمل في إنجاب طفل ذكر فهل أقدم على هذه الخطوة؟.. نسيت أن أخبركم أن هاجس الموت يطاردني ورغم إنني أحافظ على أركان ديني وأكثر من الصدقات إلا إنني خائف جدا من الموت وفي الوقت ذاته أشعر أن حياتي بلا جدوي وأنه لم يتبق لي إلا انتظار الموت في محطتي الأخيرة. دكتور أحمد.. المملكة العربية السعودية

الإجابة 09/01/2025

عزيزي الدكتور أحمد، أهلا ومرحبا بك على صفحة الاستشارات الخاصة بمجلة المجتمع في الحقيقة إن لديك مشكلة يمكن أن نقول إنها مشكلة وجودية وهي ليست اللامشكلة كما تتصور بل هي مشكلة الإنسان عموما في العصر الحديث "الاغتراب"، أقصد اغتراب الإنسان عن نفسه حيث يشعر أن حياته بلا معنى.. بلا قيمة حقيقية ويشعر أنه لا جدوى من هذا الذي يعيشه كله.. وفي رحلته للبحث عن معنى يبدأ في التخبط أو الانشغال بأمور ليست ذات قيمة أو الترفيه ومحاولة الحصول على المتعة عسى ذلك يسد الفجوة التي يشعر بها داخل روحه، وباقترابك من مرحلة التقاعد وشعورك بالقلق من فقدان المساحة الآمنة التي اعتدت عليها زادت مشاعر الاغتراب الداخلي الذي تشعر به فبدأت بالتفكير مرة أخرى في الزواج عسى ذلك أن يمنحك جزءًا من البهجة في حياتك المنطفئة والتي لم يضف لها السكن الجديد أو السفر في شتى البلدان شيء من الوهج أو الألوان الحيوية...

إن هواجسك وقلقك من الموت يؤكد أنك وقعت في فخ هذه المشكلة الوجودية، وإن كانت عبادتك وصدقاتك قللت بعض الشيء من هذه الهواجس ومنحتك مساحة آمنة (وإن كانت ضيقة) للحياة هي ما جعلتك تفكر في الزواج الثاني وتحلم بالابن الذكر ونحو ذلك.

تعلم أن الزواج الثاني أمر مباح شرعًا وأن سعيك وراء طفل هو الآخر أمر لا غبار عليه بل لعله يكون محمودًا، ولكن في سياق آخر يختلف تماما عن السياق الذي تسير فيه حياتك فلا بد أن  يكون الزواج  بنية التأبيد؛ لذلك حرّم الزواج المؤقت وأنت غير واثق من أي شيء.. غير واثق من رغبتك الحقيقية فيه.. غير واثق من استمراره.. غير واثق من عدلك فكيف تقدم على مثل هذه الخطوة الكبيرة التي أسماها الله الميثاق الغليظ لمجرد أنها قد تقلل من إحساسك بالملل واللا جدوى.

عزيزي الدكتور أحمد، لديك نعم كثيرة رائعة في حياتك فأنت في مرحلة عمرية ذهبية تستطيع أن تمتلك فيها كامل العطاء ويبدو لي من رسالتك أنك بصحة وافرة.. تمتلك المال.. تمتلك الزوجة الصالحة المطيعة والبنات اللاتي يشْرف بهن أي أب.. لديك الوضع الاجتماعي المرموق.. لديك نعمة الأمن.. لديك العقل الذي يفكر ويتدبر ويستبصر، أي أنه حيزت لك  نعم الدنيا كلها على سبيل الحقيقة لا المجاز، والإنسان عندما يمتلك كل هذه النعم يعتادها ويألفها ولا يقدرها قدرها ويظل يبحث عن المفقود الغامض حتى ينتبه على فقدانه نعمة أو أكثر من ركائز النعم التي اعتادها وألفها ووقتها يندم حين لا ينفع الندم.. فأنا هنا أخاطب ضميرك كي ينتبه، أخاطب عقلك كي يتفكر.

يا عزيزي، أنت لست بحاجة لنعمة جديدة أو متعة جديدة أنت بحاجة لاستعادة قلبك.. لاستعادة شعورك بقيمة ما تملك.. بحاجة للخروج من متاهة التيه الداخلية التي تعيشها..  بحاجة للهرب من أحراش الاغتراب التي تحيط بك، ولن يستطيع أحد أن يمد لك يد العون سوى نفسك بالاستعانة بربك، ولعل في استشارة المستشار الإيماني التالية إضاءات لك على طريق العودة.

ويضيف الأستاذ فتحي عبد الستار المستشار الإيماني:

أخي العزيز الدكتور أحمد، مرحبًا بك، وأسأل الله -عز وجل- أن يشرح صدرك ويطمئن قلبك، وبعد...

فإنني أُثْني على ما نصحتك به الدكتورة فاطمة، وأسأل الله أن ينفعك به، وأستأذن الدكتورة الفاضلة في أن أضيف على ما تفضلَتْ به الآتي:

إنك –أخي الكريم- تمر بمرحلة حرجة مليئة بالتساؤلات والتحديات، وهي مرحلة التقاعد التي تأتي بعد سنوات من العمل والنشاط، مما يخلق فراغًا عاطفيًا وذهنيًّا قد يكون صعبًا التعامل معه. كما أن هذا الشعور بالملل والإحباط الذي تشعر به أمر طبيعي في مثل هذا الوقت، خصوصًا إذا كانت حياتك تتسم بالرتابة في جوانب كثيرة.

فيما يتعلق بفكرة الزواج الثاني، من المهم أن تعي تمامًا أن أي قرار من هذا النوع يتطلب التأمل العميق في تأثيراته على حياتك وحياة أسرتك. تذكر أن الزواج ليس مجرد خطوة شخصية بل هو التزام اجتماعي وعاطفي طويل المدى. ومن المهم أن تأخذ في اعتبارك عدة عوامل:

1- العلاقة مع زوجتك الحالية: كيف سيكون تأثير الزواج الثاني على علاقتك الحالية مع زوجتك؟ كيف ستتفاعل مع هذه الفكرة في حال حدوثها؟ هل ستكون قادرة على التكيف معها؟ وتذكَّر أنها مرَّت بتجربة صحية صعبة، وهذا قد يكون له تأثير في طريقة تفكيرها الآن.

2- التأثير على الأسرة: يجب التفكير في تأثير هذا القرار على حياتك وحياة أولادك وراحة أفراد الأسرة بشكل عام. هل ستكون قادرًا على توفير التوازن بين الزوجتين والأسرتين بشكل عادل؟

3- أهدافك من الزواج الثاني: هل فكرة إنجاب طفل ذكر هي السبب الأساسي الذي يجذبك نحو الزواج الثاني؟ وهل يمكن أن تجد سبلًا أخرى لإشباع رغبتك أو الشعور بالرضا دون أن تتخذ هذه الخطوة؟

من ناحية أخرى، إذا كنت تشعر بالملل والفراغ، فربما يمكن البحث عن طرق أخرى لإشغال وقتك وتنمية ذاتك. فالتقاعد قد يتيح لك الفرصة للغوص في اهتمامات جديدة قد تكون ملهمة، مثل العمل التطوعي أو تعلم مهارات جديدة أو الانخراط في أنشطة اجتماعية.

من المفيد أيضًا أن تتحدث مع زوجتك بشكل صريح حول مشاعرك ورغباتك، وأن تسعى معًا لإيجاد حلول مشتركة لمواجهة هذه المرحلة الانتقالية.

أما بالنسبة للجزء الأخير من سؤالك، وهواجس الموت التي تنتابك، فإني أفهم مشاعرك تمامًا، وأنت لست وحدك في هذه التجربة. إن الخوف من الموت شعور طبيعي، لكنه قد يصبح مصدر قلق كبير إذا أثَّر بالسلب على حياتك. كما أن شعورك بأن الحياة بلا جدوى يمكن أن يكون ناتجًا عن حالة من الإحباط أو فقدان التوجيه، وأحيانًا يمكن أن يحدث عندما نتعرض لضغوط أو تحديات نفسية.

من المهم أن تعرف أن الخوف من الموت لا يعني أبدًا ضعف الإيمان، فأشد الناس إيمانًا قد يشعرون به في لحظات معينة.

ودعني أذكِّرك ببعض الأمور التي قد تساعد في إعادة التوازن والطمأنينة إلى قلبك:

1- الموت جزء من الحياة: فالموت حقيقة من حقائق الحياة التي لا مفر منها، وقد قرر الله -سبحانه وتعالى- أنهما وجهان لعملة واحدة، خلقهما لابتلاء الإنسان واختباره، فقد قال جل وعلا: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}. كما قال عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}. وكلنا نعلم أن آجالنا مكتوبة عند الله قبل أن نولد. لكن هذه الحقيقة يجب ألا تكون مصدر قلق دائم؛ بل دافعًا لنا لتقدير الحياة أكثر.

قد تكون مشاعر الخوف ناتجة عن التفكير المستمر في النهاية بدلاً من التركيز على كيفية الاستفادة من الوقت الذي نملكه في هذه الحياة.

2- قيمة الحياة في الأفعال: الحياة ليست في عدد الأيام؛ بل في قيمة الأفعال التي نعملها خلالها. فعندما نشعر أن حياتنا بلا جدوى، غالبًا ما ننسى أننا كلنا جزء من شبكة كبيرة من العلاقات والمجتمعات التي يؤثر بعضها في بعض. بإمكانك أن تكون نقطة تغيير إيجابية في حياة من حولك. يمكن أن تجد معناها في العطاء، في الكلمات الطيبة، وفي الأعمال التي تنقذ قلوب الآخرين، ولو كانت صغيرة.

3- الصبر والتفاؤل: في أوقات الخوف والقلق، يمكن أن يكون الصبر على حالتك النفسية والروحانية مفتاحًا للسلام الداخلي. تذكر أن الله معك في كل لحظة، وأنه لا يترك عباده أبدًا في لحظات ضعفهم. كما أن التفاؤل لا يعني إنكار الواقع، بل هو التوكل على الله والسعي في طريق الأمل والعمل، حتى في أصعب الأوقات.

4- تغذية الروح: إننا في ديننا نجد علاقة مباشرة بين الإيمان بالله والطمأنينة؛ {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}. فالصلاة والذِّكر والدعاء تُعد من أكثر الأمور التي تساعد على تهدئة النفس. وعندما تشعر بأنك في محطة انتظار للموت، تذكَّر أن الحياة التي منحك الله إياها هي فرصة للتقرب منه. كما أن الدعاء لطلب الطمأنينة أو السكينة هو من أقوى وسائل التواصل مع الله، التي تعني تمسكنا بحبله –سبحانه وتعالى- في لحظات الشك والخوف.

5- ممارسة الامتنان: عندما نشعر بأن الحياة بلا جدوى، فقد يساعدنا أن نمارس خلق «الامتنان». يمكن أن تبدأ يومك بتذكير نفسك بالأشياء التي تشعر بالامتنان من أجلها، حتى وإن كانت بسيطة: صحة جيدة، وظيفة محترمة، مال يغنيك عن الناس، زوجة محبة، أبناء بررة، أناس يحبونك... إلخ.

6- البحث عن أهداف جديدة: الحياة دائمًا مليئة بالفرص. يمكنك دائمًا أن تجد هدفًا جديدًا أو شغفًا جديدًا. وقد تكون رحلة البحث عن الهدف مليئة بالاكتشافات الصغيرة التي تعطي لحياتك طعمًا ومعنى جديدًا.

وفي النهاية، أطمئنك -أخي الكريم- بأننا كلنا نمر بلحظات من القلق والشعور بالخوف، ولكن مع الإيمان الصادق والعمل الجاد، يمكننا أن نجد السلام الداخلي، ونشعر بأن حياتنا تستحق العيش، وأن الموت ليس النهاية؛ بل هو انتقال لحياة أبدية ملؤها النعيم والطمأنينة بإذنه تعالى.

وفقك الله تعالى، وتابعنا بأخبارك.