الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : إيمانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
134 - رقم الاستشارة : 867
02/02/2025
دايم يطرى على بالي سؤال، دام الدنيا فانية وآخرتنا هي اللي بتبقى، ليش ندرس أشياء ما لها علاقة بالدين، وليش نشتغل أكثر من حاجتنا، بدل ما نكتفي بالشغل اللي يوفر لنا الأكل والشرب ونتصدق وخلاص؟ وبرضه، ليش نتزوج ونجيب عيال، مع إنهم ممكن يشغلونا عن العبادة؟ مو كان الأفضل نستغل هالوقت في الصلاة وقراءة القرآن والتقرب إلى الله أكثر؟
أختي الكريمة، مرحبًا بك، ونشكرك على التواصل معنا، وبعد...
فسؤالك يعكس قلبًا مُحبًّا لله، مشتاقًا لمرضاته، متطلعًا لما هو أبقى وأعظم، وهذه في حد ذاتها نعمة عظيمة أنعم الله بها عليكِ، فأسأل الله أن يزيدك هدىً وثباتًا. وفي الحقيقة، ما ذكرتِه من تساؤلات هو أمر تدور حوله أفكار كثير من الناس الذين يبحثون عن الطريق الأقرب والأسرع إلى الله، فجزاكِ الله خيرًا على طرحه.
وقبل أن أتعرض لتساؤلاتك بالتفصيل، أود أن أثبت هنا أصلًا ومبدأ مهمًّا جدًّا، وهو أن العبادة في الإسلام مفهوم شامل، يتجاوز حدود العبادات المحضة التقليدية، مثل: الصلاة، والصوم، لتشمل كل فعل وقول يرضي الله تعالى، سواء كان ظاهرًا أو باطنًا، قولًا أو فعلًا.
والعبادة هي غاية الخلق، كما قال الله –تعالى- في كتابه الكريم: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [الذاريات: 56]، وهذا يشير إلى أن العبادة تشمل كل جوانب الحياة التي تتوافق مع أوامر الله ونواهيه. وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» (رواه البخاري)، نجد تأكيدًا على أن النية الصادقة في أي عمل تجعل منه عبادة، سواء كان هذا العمل ظاهرًا كالصلاة، أو باطنًا كالتواضع والنية الطيبة.
فالعبادة تشمل أيضًا تصرفات الإنسان في حياته اليومية التي يوجهها بنية الطاعة لله. فالإحسان في المعاملة، والتزام الصدق، والابتعاد عن الكذب، والإعانة على الخير، كلها تعد من العبادات إذا كانت نية الشخص فيها إرضاء الله. وفي القرآن الكريم نجد قوله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَٰلَمِينَ) [الأنعام: 162]، وهذه الآية تؤكد أن الحياة كلها يجب أن تكون خاضعة لله، وأن العبادة ليست مقتصرة على ما يتصل بالعبادات المحضة فقط؛ بل تشمل كافة أفعال الإنسان إذا كانت النية فيها لله عز وجل، وكانت موافقة لما يرضي الله تعالى، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والآن، هيا نتأمل في كل نقطة طرحتِها بعين الإيمان، وبنور الوحي، لنجد أن الدنيا، رغم أنها فانية، لها دور عظيم في تحقيق مراد الله من عباده.
لماذا ندرس العلوم الدنيوية إذا كانت الآخرة هي الباقية؟
الدنيا هي دار العمل والابتلاء، والله -سبحانه وتعالى- أمرنا بعمارتها، فقال: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ وَٱسۡتَعۡمَرَكُمۡ فِيهَا﴾ [هود: 61]، أي طلب منكم إعمارها بما ينفع.
فالعلم –أيًّا كان مجاله– هو وسيلة للقيام بالخلافة في الأرض، وهو عبادة إذا قُصد به الخير. فهل يمكننا بناء المستشفيات لعلاج المسلمين بدون الطب؟ أو إقامة العدل في الأرض دون دراسة القانون؟ أو حتى الاكتفاء بطعام صحي دون معرفة الزراعة؟ حتى العلم الشرعي نفسه يحتاج إلى علوم أخرى كالتفسير واللغة وغيرها.
وقد ورد في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» (رواه البيهقي)، وهذا يشمل كل عمل مباح، سواء كان في الدين أو الدنيا.
والأمة الإسلامية تحتاج إلى علماء وأطباء ومهندسين ومعلمين، فكل هذه العلوم تسهم في تحقيق مقاصد الشريعة في حفظ النفس والعقل والمال والدين والنسل.
لماذا نشتغل أكثر من حاجتنا؟ ولماذا لا نكتفي بالضروري ونتصدق؟
نعم، القناعة كنز، والاقتصاد في الدنيا محمود، لكن الإسلام ليس دين كسل أو توقف عن الإنتاج. النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه كان يعمل بالتجارة، والصحابة كانوا تجارًا وصناعًا ومزارعين، ولم يكونوا يعيشون على الحد الأدنى فقط.
بل إن السعي في العمل عبادة إذا اقترن بالنية الصالحة، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده» (رواه البخاري).
ثم إن الإنسان لا يعيش وحده، بل لديه مسؤوليات تجاه أهله وأمته، والمسلم القوي خير من المسلم الضعيف. فكيف نساعد الفقراء ونبني المستشفيات والمساجد إن لم يكن بيننا من يعمل وينفق في سبيل الله؟
وقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الكسب أطيب؟ فقال: «عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور» (رواه الطبراني). فالعمل المباح رزق، والسعي فيه إذا كان بنية صالحة، يكون عبادة.
لماذا نتزوج وننجب أطفالًا إذا كان ذلك قد يشغلنا عن العبادة؟
إن الزواج سنة نبوية عظيمة، بل هو من الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فقال سبحانه: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ [الروم: 21].
فالزواج ليس مجرد شهوة أو شغل عن العبادة، بل هو طريق للعبادة نفسها؛ فالزوجة الصالحة تعين زوجها على طاعة الله، والأبناء الصالحون يكونون امتدادًا للخير بعد موت الإنسان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له» (رواه مسلم).
والنبي -صلى الله عليه وسلم- شجَّع على الزواج وقال: «تَزَوَّجُوا الوَدُودَ الوَلودَ، فإني مُكَاثِرٌ بكم الأنبياءَ يومَ القيامةِ» (رواه أحمد).
والانشغال عن العبادة –إن حدث- فليس بسبب الزواج أو الأبناء، بل بسبب قصور في تنظيم الوقت، أو ضعف في الإيمان، وإلا فكم من أمهات وآباء كانوا من أعظم العُبَّاد والعلماء!
والنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يمنع الزواج والتكاثر بحجة العبادة، بل لما جاءه بعض الصحابة يريدون التفرغ للعبادة وترك الزواج، قال لهم: «... وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (رواه البخاري).
أختي الفاضلة، الحياة الدنيا مزرعة الآخرة، وليست نقيضًا لها، بل وسيلة للوصول إليها. فطلب العلم، والعمل، والزواج، والإنجاب، كلها عبادات إذا صحت النية، وكلها طرق للوصول إلى الله، بل إن حسن أداء هذه الأمور قد يكون أعظم أجرًا من نوافل العبادات المحضة، إذا كان فيه نفع للأمة وأداء للواجب.
أسأل الله أن يبارك فيك، وينير بصيرتك، ويجعلك ممن يوفقون في الدنيا والآخرة.