23 فبراير 2025

|

24 شعبان 1446

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. فتحي عبد الستار
  • القسم : إيمانية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 114
  • رقم الاستشارة : 836
30/01/2025

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وجزاكم الله خيرًا على جهودكم. عندي تساؤل، وأرجو منكم التوضيح والإفادة. نعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أنزل كتبًا سماوية قبل القرآن، مثل التوراة والإنجيل والزبور وغيرها، لكن في مواضع عديدة من القرآن الكريم، يخبرنا الله بأن أهل الكتاب قد حرَّفوا هذه الكتب، ومع ذلك، نجد أن الله يأمرنا في القرآن أيضًا بالإيمان بهذه الكتب، فكيف نجمع بين الأمر بالإيمان بهذه الكتب وبين كونها قد تعرضت للتحريف؟ سؤال آخر: لماذا لم يحفظ الله هذه الكتب كما حفظ القرآن الكريم؟ وكيف سمح الله عز وجل بتحريفها وهو القادر على حفظ كلامه؟ ما الحكمة من حفظ القرآن فقط دون الكتب السابقة؟

الإجابة 30/01/2025

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. مرحبًا بك أخي، وأسأل الله أن يرزقني وإياك الفهم الصحيح لدينه، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وبعد...

 

فسؤالك يحمل في طياته حرصًا منك على الفهم والتدبر، وهذا أمر محمود؛ فالعقيدة تُبنى على الفهم واليقين، لا على التقليد الأعمى.

 

وإن مسألة الإيمان بالكتب السماوية مع كونها تعرضت للتحريف، وكذلك الحكمة من حفظ القرآن دون غيره من الكتب السابقة، من القضايا المهمة التي تحتاج إلى بيان وتوضيح، أسأل الله التوفيق والسداد في الإجابة عن أسئلتك.

 

أولًا: كيف نؤمن بالكتب السابقة رغم أنها قد تعرضت للتحريف؟

 

إن الله عز وجل أمرنا بالإيمان بالكتب السماوية السابقة، فقال تعالى: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ (البقرة: 285)؛ لكن الإيمان بهذه الكتب ليس على إطلاقه، بل له ضوابط محددة، وهي:

 

1- الإيمان بأنها كانت من عند الله في أصلها: فنحن نؤمن بأن الله أنزل التوراة على موسى -عليه السلام- والإنجيل على عيسى -عليه السلام- والزبور على داوود -عليه السلام- وأنها كانت تحمل الهداية والنور. قال الله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ﴾ (المائدة: 44).

 

2- الإيمان بأنها قد تعرضت للتحريف: فالله –سبحانه- أخبرنا أن اليهود والنصارى لم يحفظوا كتبهم، بل عبثوا بها، وأضافوا وحذفوا وفق أهوائهم. قال تعالى: ﴿يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ﴾ (المائدة: 13)، وقال: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ﴾ (البقرة: 79). لذا، لا نؤمن بأن كل ما في الكتب الحالية صحيح؛ بل نؤمن بأن فيها بعض الحق، ولكن امتزج بالباطل والتحريف.

 

3- الإيمان بما لم يُحرَّف منها إذا وافق القرآن: فما جاء في التوراة والإنجيل من أخبار أو أحكام، إن وافق ما في القرآن والسنة فنحن نصدقه، وإن خالف فإننا نكذبه، وإن لم يُذكر في القرآن، فلا نصدقه ولا نكذبه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تُصَدِّقُوا أهْلَ الكِتَابِ ولا تُكَذِّبُوهُمْ، وقُولوا: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا)» (رواه البخاري).

 

4- الإيمان بأن القرآن ناسخ للشرائع السابقة: حتى لو لم تتعرض الكتب السابقة للتحريف، فإن الإسلام جاء ليكون الرسالة الخاتمة، فلا يصح لنا اتباع الشرائع السابقة بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. قال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ (المائدة: 48). أي أن القرآن يهيمن على ما سبقه، فما أقره أقررناه، وما نسخه نسخناه.

 

ولعل من المناسب أن نشير هنا إلى أن التحريف وقع بعدة صور، منها:

 

- التحريف بالإضافة: أي إضافة ألفاظ ليست من كلام الله. فالنصارى –مثلًا- أضافوا عقيدة التثليث، رغم أن التوراة والإنجيل الأصليين كانا يدعوان إلى التوحيد، كما في قول الله: ﴿لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوٓاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلَٰثَةٍ﴾ (المائدة: 73).

 

- التحريف بالحذف: فقد حذفوا بعض الأحكام، مثل تحريم الربا، حيث حُذفت من بعض نسخ التوراة رغم أنها كانت محرمة.

 

- التحريف بالتأويل الباطل: أي تفسير النصوص بغير مرادها، مثل تحريف بعض اليهود لنصوص البشارة بالنبي محمد –صلى الله عليه وسلم- ليخفوا دلائل نبوته.

 

ثانيًا: لماذا لم يحفظ الله الكتب السابقة من التحريف كما حفظ القرآن؟

 

هنا يجب أن نفهم الحكمة الإلهية، فحفظ القرآن دون غيره مرتبط بعدة أمور:

 

1- الكتب السابقة كانت مرسلة لأقوام محددين وزمن محدد: فكل نبي كان يرسل إلى قومه فقط، كما حكى القرآن عن عيسى عليه السلام: ﴿وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ (آل عمران: 49)، ولذلك لم تكن هناك حاجة لحفظها؛ لأنها كانت مرتبطة بزمن معين، أما القرآن فقد أُنزل للناس كافة إلى يوم القيامة، فوجب حفظه.

 

2- توكيل حفظ الكتب السابقة إلى أهلها: فالله -عز وجل- أوكل حفظ التوراة –مثلًا- إلى بني إسرائيل، فقال: ﴿بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ﴾ (المائدة: 44)، لكنهم لم يكونوا أمناء، فحرَّفوا وبدَّلوا، بينما تولى الله بنفسه حفظ القرآن وتعهد ذلك، فقال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: 9).

 

3- القرآن معجز في حفظه من التحريف: فلم يتغير فيه حرف منذ نزوله، على عكس الكتب السابقة التي لم يكن لها نظام محكم لحفظها من الضياع والتحريف.

 

ختامًا -أخي الكريم- الإيمان بالكتب السماوية السابقة جزء من عقيدتنا؛ لكن إيماننا بها محدد بما أخبرنا الله به، فنؤمن بأنها كانت من عند الله، لكنها تعرضت للتحريف، ولا نأخذ منها إلا ما وافق القرآن. أما حفظ الله للقرآن دون غيره، فحكمة إلهية؛ لأن الإسلام هو الدين الخاتم، والقرآن هو الدستور الأبدي للبشرية.

 

أسأل الله أن يرزقنا الفهم الصحيح لدينه، وأن يثبتنا على الحق حتى نلقاه. وإذا كان لديك أي استفسار إضافي، فنحن نرحب بك على الدوام.