الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : دعوية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
74 - رقم الاستشارة : 1844
05/05/2025
السلام عليكم. أنا مدرس لغة العربية وتربية إسلامية في مدرسة ثانوي، ودائمًا أشعر أن مسؤوليتي لا تقتصر على التعليم فقط، بل تشمل الدفاع عن القرآن الكريم وتعزيز مكانته في نفوس الطلاب. في السنوات الأخيرة أصبحت أُصادف، سواء من بعض الطلَّاب أو من خلال الإنترنت، أصواتًا تُشكّك في القرآن، أو تستخفّ ببعض أحكامه، بل ويطعنون في كونه وحيًا أصلًا.
هذا الأمر يؤلمني، وأشعر أحيانًا أن ما أملكه من أدوات لا يكفي للرد العلمي الرصين على هذه الشبهات، خاصة أن بعض المنتقدين يستخدمون لغة عقلانية أو علمية.
فكيف يمكنني أن أعد نفسي بشكل أفضل لمواجهة هذه الطعون؟
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ومرحبًا بك أيها المُعلِّم الفاضل.
أشكرك على تواصلك الكريم، وعلى ثقتك بنا، وأحيي ما في صدرك من غيرةٍ على كتاب الله وحبٍّ له؛ فجزاك الله عن القرآن خير الجزاء، وبارك فيك وفي علمك ونيَّتك، ورفع قدرك في الدنيا والآخرة، وجعلك من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، وبعد...
شرف البلاغ عن الله والدفاع عن وحيه
أخي المبارك، إنك في مقامٍ جليل، ورُبَّ عملٍ بسيط تُؤدِّيه في فصلك الدراسي قد يكون عند الله أعظم من جبال الدنيا؛ لأنك تحرس به دينًا، وتثبت به فؤادَ الشباب، وتطفئ به نارَ شبهَة، أو تبعث في قلبٍ خامل يقظة الإيمان.
يقول الله سبحانه: ﴿ومَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وعَمِلَ صَالِحًا وقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: 33]. ويقول النبي ﷺ: «إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلّون على معلم الناس الخير» [رواه الترمذي وصححه الألباني].
فكيف بمن يُعلِّمهم القرآن، ويذود عنه؟!
كيف بمن يقف على ثغر من ثغور الإسلام في زمنٍ تلاطمت فيه الشبهات وتناثرت فيه السهام؟!
اعلم -رحمك الله- أن ما تراه من طعنٍ في القرآن، أو تهكُّمٍ على بعض أحكامه، هو من صور البلاء والابتلاء الذي لا بد أن يمرَّ به الحق، وقد قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام: 112]، وهؤلاء الذين يُلبِسون الباطلَ ثوبَ «العقلانية» و«العلمية» ليسوا أول من فعل، فقد سبقهم أمثالهم، وجعل الله هذا من قَدَره، ليميز الخبيث من الطيب، ويُظهر من يُجاهد بعلمه ومن يتقاعس.
كيف تُعدّ نفسك للرد على الشبهات؟
أنصحك -أخي الكريم- بما يلي:
1- إحياء اليقين في قلبك قبل عقلك:
قبل أي أدواتٍ علمية أو مصادر معرفية، لا بد أن يكون اليقين هو الأصل في قلبك؛ لأن الشبهة لا تنفذ إلا إلى قلبٍ فيه فراغ. فزد من تعلُّقك بالقرآن لا بوصفه كتاب علم فقط، بل بكونه كتابَ هدايةٍ ورباطٍ بينك وبين الله. اقرأه بعين الإيمان لا بعين الجدل، وتذكَّر أن أول صفةٍ لأهل الإيمان في القرآن أنهم: ﴿يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾ [البقرة: 4].
ولا يدخل القرآن في قلبك إلا من باب التواضع والتسليم، فاجعل هذا الباب مفتوحًا دومًا، وسِر إلى الشبهات وأنت متدرِّعٌ به، لا متشكِّكًا ولا متردِّدًا.
2- تعلُّم أصول التعامل مع الشبهات:
من المهم أن تتعلَّم القواعد الكبرى في الرد على الشبهات، لا فقط الإجابات الجزئية، ومن هذه القواعد:
- التفريق بين الطعن والشبهة: فبعض المنتقدين لا يسألون ليفهموا؛ بل ليُشكِّكوا، وهؤلاء يُعاملون بالإعراض الحازم، أو بالتجاهل، ولا تضيع وقتك في الحوار معهم.
- التدرُّج في الرد: لا تبدأ بالتفاصيل دون تأسيس اليقين الكلي. فكثيرون -مثلًا- يرفضون حُكمًا شرعيًّا؛ لأنهم لم يُسلِّموا أصلًا بأن القرآن من عند الله.
- ربط الأحكام بحكمة الله لا بمنطق البشر: لأن معظم الشبهات تنبع من قياس القرآن على «طبيعة العصر».
- حُسن العرض: فبعض الردود قد تكون صحيحة من حيث المعلومة؛ لكنها تنفِّر بسبب غلظة الأسلوب أو قلة الفهم النفسي للمخاطَبين.
3- الاستعانة بالمنصات والمجموعات المتخصصة:
يمكنك الاستعانة بالمواد المقروءة والمسموعة والمرئية على كثير من المواقع والمجموعات الإلكترونية المتخصصة في الرد على الشبهات حول القرآن الكريم؛ لكن تحرَّ فيها التي يشرف عليها علماء موثوقون، ويجمعهم حرصٌ صادق على بيان الحق بأسلوب علمي رصين، لا ينزلق إلى جدال عقيم.
ابحث عمَّن يُحسن الجمع بين الرد العلمي، والفهم الدعوي، وابحث عن مصادر ذات منهج سليم، يتجنَّب الإثارة، ويحرص على عرض الشبهة وردِّها في سياق إيماني هادئ.
4- تحصين طلابك من الداخل أولًا:
وذلك من خلال غرس المفاهيم الكبرى، مثل:
- منهجية فهم القرآن: كيف نقرأ القرآن؟ كيف نربط الآيات ببعضها؟ كيف نُسلِّم لله؟
- عُلوُّ مقام الوحي: القرآن ليس كتابًا عاديًّا، ولا نصًّا بشريًّا؛ بل هو كلام الله الذي أقسم: ﴿فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وإنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إلا المُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ﴾ [الواقعة: 75- 80].
- صلة القرآن بالواقع: اشرح لهم كيف أن القرآن يفسِّر النفس والناس والتاريخ والكون... فهذا يُورِثهم اقتناعًا بالقرآن، وحبًّا له، ويجعلهم يرونه حيًّا.
5- كن رحيمًا حكيمًا:
النبي ﷺ ما كان فاحشًا ولا غليظًا في دعوته، بل قال الله له: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ولَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: 159]، وتأمل قوله تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [المؤمنون: 96].
فاحرص على أن تكون ردودك لا توقظ الكِبر وتولِّد النفور فيمن أمامك؛ بل تجذبه وتهديه لله. وكثيرًا ما كانت الكلمة الهادئة الحكيمة خيرًا من عشرات الكتب؛ لأن القلوب لا تفتح إلا بالرحمة واللين.
وختامًا أخي الحبيب، اعلم أن الله لا يُضيِّع عبدًا ينافح عن دينه، وقد قال: ﴿إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [غافر: 51]، وأن هذا الطريق -وإن اشتدَّت فيه الفتن- فإن الله يُثبِّت فيه الذين آمنوا، وينير بصيرتهم.
فثِق أنك على ثغرٍ عظيم، واحرص على ألا يُؤتى الإسلام من قِبلك، وجدِّد نيتك كل يوم. أسأل الله أن يُبارك فيك، وأن يزيدك علمًا ونورًا، وأن يجعل طلابك شهداء لك لا عليك، وأن ترى ثمار بذرك في الدنيا والآخرة.