الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : دعوية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
374 - رقم الاستشارة : 802
26/01/2025
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. أنا سيدة مسلمة أقيم في الغرب، في كندا بالتحديد، حقيقة لقد احتار أمرنا عند تقديم نصيحة لأي أحد، فعندما نعطي رأيًا أو نصيحة عن اختلاط الرجال بالنساء في مناسبات اجتماعية، ونطالبهم بأن يكون النساء والرجال منفصلين، يردون علينا قائلين: «أنتم تدرسون بمدارس مختلطة»، فنقول لهم: «نحن في بلاد أجنبية، لا نستطيع أن نتحكم بذلك، ما علينا إلا أن نحترم ديننا وعاداتنا، لكن أن نعمل نحن بأيدينا حفلة أو لقاء، ونؤجر مكانًا نستطيع أن نتحكم بذلك»، فنقابل بالاستهزاء والغضب وأننا نحن المسلمون وهم الكفار!! وإذا أردنا أن ننصح أناسًا في حفل عرس أو غيره، ويفتحون الأغاني، وننصح بالأناشيد تسْوَدّ وجوههم ويضايقوننا بكلام جارح، وأننا نحن فقط نريد الجنة وهم لا؟ وعندما ننصح بأن هذا الشيء بدعة، فيقولون: «هل أنتم تعرفون أفضل من هذا الشخص؟!!» ويردون علينا بأننا أصحاب مشاكل أو فتن، ويطلبون منا السكوت وأن هذه غيبة!! وعندما ننصح بأن هذه فتنة إذا الإنسان سار وراءها، قالوا: «أنتم اصحاب الفتن!!». باختصار: يريدوننا أن نجلس معهم، ونأكل، ونشرب، ونضحك، وكلام فاضي، وعند النصيحة وصفونا بتلك الصفات. احترنا كيف نتصرف، أصبح البعض يقول: «هؤلاء لا يحبون النصيحة ويعتبرونك تتدخل في شئونهم فلا تتكلم». والآخر يقول لك: «خلاص لا تتعب نفسك واتركهم!!». ما العمل؟ تعبنا من هؤلاء الناس الذين كنا نظن أنهم إخواننا، بل ومثل الأهل، وعند النصيحة تنقلب كل الموازين!! والشخص الذي كانوا يمدحونه لأخلاقه أصبحوا يهينونه بمجرد النصيحة!! كيف التصرف؟ ما الحل؟
أختي الفاضلة، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ومرحبًا بك، ونشكرك على هذه الثقة، وأسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا على قدرها، وبعد..
فأحييك أختي الكريمة على محاولتك التمسك بتعاليم دينك وأخلاقه وآدابه، رغم كونك تعيشين في بلاد غير مسلمة، وأسأل الله لنا ولك الثبات على دينه.
ولا شك –أختي- أن بعض المسلمين عندما يقدر لهم العيش في بلاد غير مسلمة على غير سابقة علم والتزام بأحكام دينهم فإنهم ينساقون وراء طبيعة هذه المجتمعات، ويذوبون في محيطها، وينسون أنهم يحملون دين هداية للعالمين، وبدلاً من أن يكونوا دعاة لهذا الدين الحنيف فإنهم يعيشون وفق ما تمليه هذه المجتمعات عليهم من أعراف وتقاليد، وهذا لا شك غير مقبول، ويعقبه الخسران الكبير على مستوى الفرد المسلم وأسرته، في الدنيا والآخرة.
ولكن للأسف الشديد الأمر لا يتعلق بوجود هؤلاء في مجتمعات غير مسلمة بقدر ما يتعلق بنفوس هؤلاء الأفراد ومدى علمهم بدينهم ووجوب تمسكهم بتعاليمه؛ فكثير من المسلمين في بلاد الإسلام يفعلون هذا وأكثر، ويكونون على مسافة كبيرة من الالتزام بالإسلام وتعاليمه، لا لشيء إلا لأنهم لم يتعلموا ولم يفقهوا، ولم تخالط قلوبهم حلاوة الإيمان والالتزام.
لذا فالقضية ليست –في مبدئها– قضية التزام ببعض الأشكال الاجتماعية التي ينظمها الإسلام، بقدر ما هي قضية عقيدة وإيمان مفتقد في قلوب هؤلاء، ولو أننا عملنا أولاً على إصلاح تلك القلوب وتوجيهها التوجيه الصحيح نحو دين رب العالمين، توجيها يجعلها توقن بأهمية التمسك به وآدابه في أي مكان، لكان ذلك أجدى وأنفع من صب الحديث حول تلك المظاهر، فإننا لو أصلحنا الأساس لوجدنا صلاح البنيان كله، بما يشمله من مظاهر وعادات.
إن من يعارضك أختي في إنكار الاختلاط غير المنضبط بين الرجال والنساء، وفي إنكار الحفلات التي يصاحبها الغناء المخالف لآداب الإسلام، إنما يفعل ذلك عن جهل بأحكام دينه، وعن قصور فهم؛ لذا فإن ما عليك أن تقومي به أولاً ويساعدك في هذا من يحملون نفس الهم هو إصلاح العقول والقلوب، بالعلم الصحيح، بأن نعلم هؤلاء أن القضية ليست قضية أعراف وتقاليد مجتمعية يستسيغها البعض ويرفضها البعض الآخر، وإنما هي قضية دين، أي قضية حلال وحرام، فإذا علموا ذلك وعرفوه، فليتحمل كل إنسان بعد ذلك نتيجة اختياره، ومن يخالف يتحمل نتيجة أفعاله أمام الله عز وجل، وإنما لك أجر الناصح، وليس عليك وزرهم؛ فالله عز وجل يقول: ﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ ويَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ (فاطر: 8)، ويقول: ﴿وقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن ومَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف: 29). ويقول: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾ (البقرة: 272)، ويقول: ﴿فَذَكِّرْ إنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ . لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ﴾ (الغاشية: 21، 22).
إن ما يجب عليك –أختي الفاضلة– أنت وكل مسلم ومسلمة في هذا المكان هو الدعوة إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال مع المخالف بالتي هي أحسن، على أن يكون هذا على بصيرة وعلم ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا ومَنِ اتَّبَعَنِي﴾ (يوسف: 108).
ولا تنسي –أختي الفاضلة– وأنت توجهين النصيحة لأيهم، أن تكون تلك النصيحة مغلفة بعبارات الود والحب والتقدير، التي تشعر المنصوح بحرصك على مصلحته والخوف عليه، لا أن تشعره بالتعالي منك أو الوصاية عليه، أو محاولة فرض آرائك ووجهة نظرك، ومن آداب النصيحة أيضًا:
1- الإخلاص لله، وجعل النصيحة خالصة لوجهه وحده، وليس لأي غرض دنيوي.
2- أن يكون الناصح نفسه يطبق ما يقول وقدوة حسنة فيما ينصح به من فضائل أو ينهى عنه من رذائل.
3- تأكد الناصح من صحة الأمر الذي ينصح به من الناحية الشرعية وغيرها، فلا يقدم معلومات مشوشة، فتلك أمانة.
4- تخير الوقت المناسب، وتحسس الجو النفسي المهيِّئ لسماع النصيحة.
5- يجب أن تكون النصيحة سرًّا بين الناصح والمنصوح، وليست علانية؛ فقد قال الإمام الشافعي -رحمه الله-: «مَنْ وَعَظَ أخَاهُ سِرًّا فقد نَصَحَه وزَانَه، ومَنْ وَعَظَهُ عَلانِيَةً فَقَدْ فَضَحَهُ وشَانَه». فالنصيحة العلنية لا تؤتي ثمارها الطيبة، وإنما تخرج عن كونها نصيحة إلى كونها استفزازًا للمنصوح وإشعاره برغبة الناصح في فضحه أمام الآخرين، وتسيطر عليه هذه المشاعر؛ ما يجعل أذنيه وقلبه لا تلتفت للمعنى الطيب الذي تشتمل عليه النصيحة؛ ما يجعله يأخذ موقفًا مضادًّا. ولنتذكر دائما أن الهدف من النصيحة هو تصحيح العيوب والأخطاء لدى الأفراد، وليس إشاعة أفعالهم السيئة أو فضحهم.
6- إشعار المنصوح بتقبل الناصح شخصيًّا للنصح إن هو أو غيره نصحه، وأن الناصح غير منـزه عن الخطأ.
7- الحذر من أن يتحول موقف النصيحة إلى ساحة جدال عقيم ومناقشة عدائية.
ولا شك أنه يوجد في هذا البلد علماء ودعاة مخلصون، يمكنهم أن يساهموا في هذا الدور لتوعية الجاليات المسلمة بأحكام دينهم، وما يجب أن يقوموا به من عبادات وما يتمسكوا به من آداب وفق تعاليم دينهم وأحكامه، فاستعينوا بهم بعد الله عز وجل في عملية التوجيه والإرشاد. وهذا بالتأكيد أمر ليس بالهين، خاصة في بلاد تفتح الأبواب على مصاريعها لكل صاحب شهوة أن ينفذ شهوته في الحلال أو الحرام، ولا وازع له إلا الإيمان والتقوى.
والداعية لا شك يتعرض للكثير من الابتلاءات، ومنها سخرية البعض منه، واتهامهم إياه بالرجعية والتخلف والتطرف والتشدد وإثارة الفتن، إلى آخر هذه الأوصاف التي يجب على الداعية أن يكون مؤهلاً لتحملها والصبر عليها إن أراد أن ينال ثواب وفضل الدعوة إلى الله عز وجل؛ فطريق الدعوة طريق مليء بالأشواك سار عليه كل الأنبياء والدعاة منذ الأزل، ولاقوا في سبيله ما لاقوه من عنت وإيذاء واضطهاد، يقول عز وجل: ﴿وَإن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ . وَقَوْمُ إبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ . وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ (الحج: 42- 44).
لذا أنصحك –أختي الكريمة– بالصبر، كما نصح لقمان ابنه به، بعد أن أمره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وانْهَ عَنِ المُنكَرِ واصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ (لقمان: 17).
فالصبر الصبر أختي الكريمة، وإليك بعض الوسائل العملية التي تعينك في دعوتك:
1- تنظيم محاضرات ودروس لأفراد الجالية المسلمة تعرفهم أحكام دينهم وآدابه، وما يجب أن يتميزوا به عن غيرهم ممن يعيشون في هذه البلاد.
2- تقديم النماذج الجيدة للتجمعات الإسلامية، بدعوة إخوانك وأخواتك إلى تجمعات وحفلات منضبطة بتعاليم الإسلام، تحتوي شيئا من اللهو المباح، والترفيه المفيد، يشعرهم أن الإسلام لا يمنع الإنسان شهواته ولا يكبتها، وإنما فقط ينظمها ويوجهها توجيها صالحا يحفظ سلامة الفرد والمجتمع.
3- حضور تجمعاتهم وحفلاتهم، ومشاركتهم في أنشطتهم الحلال، والدعوة إلى الله عز وجل من خلالها، مع الحرص على عدم مشاركتهم فيما هو معروف حرمته يقينا.
4- محاولة استقطاب أصحاب الشأن والمكانة فيهم، وإجراء علاقات طيبة معهم، ومحاولة تغيير أفكارهم السلبية، ليكونوا عونًا لكم في الإصلاح.
5- الحرص على التميز والتفوق، وتقديم صورة طيبة للمسلم الملتزم الحريص على دينه؛ فالنصيحة لا تقبل من الفاشلين.
وفي النهاية، لا تنسي –أختي الفاضلة– أقوى وسيلة، وهي اللجوء إلى الله -عز وجل- والدعاء، وسؤاله الهداية لهؤلاء بصدق وإخلاص، فالقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء. وأنا بدوري أدعو الله عز وجل أن يعينك ويصبرك ويتقبل منك، ويفتح لك القلوب والصدور، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير. وتابعينا بأخبارك..