22 فبراير 2025

|

23 شعبان 1446

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. فتحي عبد الستار
  • القسم : إيمانية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 274
  • رقم الاستشارة : 670
12/01/2025

السلام عليكم سيدي.. أنا كاتبة .. وعندما كنت أكتب بعيدًا عن طريق الله .. “لم يكن كُفرًا أو حرامًا” كنت أجد ألف باب للعمل، وكانت المواقع على الإنترنت وأحيانًا صفحات الجرائد تُفتح لي على مصراعيها.. وكان الكتاب والأصدقاء كثيرين..لدرجة أنى كنت في بعض الأحيان أتهرب منهم .. لا لشيء إلا لأني كنت لا أستطيع التقاط أنفاسي من أحاديثهم ورغبتهم في معرفتي.. وعندما بدأت طريق الله .. أجد الأبواب لا تفتح لي بسهولة .. ولا أجد متنفسا لكلماتي لدرجة أنى بدأت أشك في نفسي وقدراتي .. لقد اهتزت ثقتي بنفسي بدرجة كبيرة .. ولا أدرى .. حتى من كلَّمت من الدعاة لم أجد بينهم أي حماس لمساعدتي .. صدقني أنى أبكى وأنا أكلمك خشية أن يكون الله لا يريدني .. ولكنى أعلم أن اليأس من رحمة الله تدخل الإنسان دائرة الكفر .. لكم مني جزيل الشكر.

الإجابة 12/01/2025

الأخت الكريمة، جزاكِ الله خيرًا على ثقتك بنا، وفتحك لقلبك معنا، ونسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا متنفسًا لكل مهموم، وأن يعيننا على مسح دمعة كل حزين، لنرسم بدلًا منها ابتسامة الرضى والطمأنينة والإيمان.

أختي الكريمة، بالرغم أنكِ ذكرتِ هذه الكلمات في آخر رسالتك، فإني أجد نفسي مدفوعًا للبدء بها في حواري معك، نظرًا لما أحدثَتْه تلك الكلمات من شعور بالألم في داخلي، ألا وهو قولك: «صدقني أني أبكي وأنا أكلمك، خشية أن يكون الله لا يريدني».

أختي الفاضلة، إني أصَدقكِ، وأُطَمْئن فؤادكِ بأن كل ما تحدثت عنه في رسالتك من الحرف الأول للحرف الأخير هي كلها ظواهر عادية، وسُنَنٌ طبيعية، وكأس لا بد أن يشربَ منه كل تائب، وكل سالك لطريق الالتزام، في القديم والحديث، وكأنها «دورة تدريبية» يخوضها التائب، فيغتسل خلالها بدموعه -ولا غير- ليزيل رواسب المعصية وعلائق الغفلة، ويشعر أثناءها ألا مكان له في هذه الدنيا، ويتمنى لو أنه لم يولَد، ولكن ما إن تُدْركه رحمات الله، تهدأ نفسه، وتقرّ عينه، وينعم بلذة القُرْب، ويلحقه بَرَد الطمأنينة بعد أن أحرقته نار الندم.

وحتى يصل إلى هذا فإنه يحتاج إلى مجاهَدَة، بل إلى مجاهَدَات، وإلى التمسُّك بالأمل والرجاء في رحمة الله -عز وجل- وعدم القنوط، وقد جاء في الأثر أن من أدمن قَرْع الباب، يوشَكُ أن يُفتَحَ له، فلا تَمَلِّي من قرع أبواب ربك، والزمي عتبته، ولوذي بجنابه، وعليك بالقرآن فإنه شفاء لما في الصدور.

ولتتذكري معاناة الصحابة الثلاثة الذين تخلفوا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك، ولما عاد النبي -صلى الله عليه وسلم- من الغزو سارع إليه المخلَّفون ليعتذروا إليه، أما هم فآثروا ألا يكذبوا، فلم يقدموا عذرًا للنبي صلى الله عليه وسلم، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم -بوحي من الله عز وجل- تربيتهم وتمحيصهم، فقاطعهم، وأمَرَ المسلمين جميعًا بمقاطعتهم، فعاشوا خمسين يومًا تحرقهم نار الندم، وأشد منها نار جفاء الأحباب وأقرب الناس، وما أشدَّها من نار، وتعرَّضوا خلال هذه الفترة إلى كثير من الفتن والإغراءات لصدهم عن طريق الاستقامة، وجذبهم إلى طريق الغواية، ولكنهم صمدوا أمام تلك الفتن والإغراءات كلها، وكلهم أملٌ في الله -عز وجل- أن يزيح تلك الغُمَّة ويقبل توبتهم ويفتح أحضان أحبابهم لهم، حتى تاب الله -عز وجل- عليهم، ونزلت البشرى من فوق سبع سماوات: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ (التوبة: 117-118)، وسُمِّيت السورة بسورة التوبة تعظيمًا لهذه الحادثة، ولهذا الكرم الإلهي، وأيضًا لصبر هؤلاء وثباتهم.

وما أروع قوله -عز وجل- يداوي من مسَّتهم جراحات الذنوب: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (الزمر: 53).

نأتي بعد ذلك لكتاباتك.. لقد قلتِ في توصيف ما كنت تكتبينه: إنه «لم يكن كُفرًا أو حرامًا»، فلِمَ إذن حكمْتِ عليه بأنه كان بعيدًا عن طريق الله عز وجل؟‍‍‍‍!

إن الكتابة الإسلامية أو الأدب الإسلامي، لا يلزم أن يكون بالضرورة تناولًا لجوانب العقيدة، أو فقه العبادات، أو غيرها من الموضوعات الشرعية، وليست قاصرة على الخُطب المدبجة بالآيات والأحاديث وأقوال السلف، وفقط.

إن كل مقال، وكل قصة، وكل قصيدة، وكل لَوْن من ألوان الكتابة والأدب، يغدو إسلاميًّا إذا كان في مُجْمَله يدعو إلى فضيلة، أو يحُثُّ على خُلِق كريم، وكانت الألفاظ والمفردات التي يستخدمها نظيفة، بعيدة عن الإسفاف والابتذال.

إنَّ الإسلامَ دينٌ يلتحم بكل جوانب المجتمع، ومن بينها الجانب الثقافي، ويضع الإطار الصحيح الذي ينبغي أن تندرج فيه مختلف الفنون والآداب ليحفظ للناس عقولهم وقلوبهم.

أختنا الكريمة، إن الكتابة التي نستطيع أن نطلق عليها أنها بعيدة عن طريق الله، تلك التي يكون هدفها إثارة الغرائز وتحريك الشهوات، وتضييع الأوقات، وبث المبادئ والأفكار الهدَّامة التي تعبث بعقول أبناء الأمة، وتدفع بها في طريق التفاهة المهلكة.

فإن كانت كتاباتك السابقة من هذا النوع أو تقترب منه، فإن من تمام توبتك، وتدعيمًا لها لتُقبَل عند الجليل العلام أن تغمسي قلمك الذي كتب تلك الكلمات في مِدَاد الطهر، وتكتبي به كلمات أخرى تمحو كلماتك السابقة، ليتحقق فيك قول الله عز وجل: ﴿إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (النمل: 11).

وليعزِّز هذا التزامك بالعبادات والفرائض، وكثرة الوقوف بين يدي الله عز وجل، وطلب الصفح منه والمغفرة، لتُذْهِبَ حسناتُك سيئاتِك، مصداقًا لقوله عز وجل: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ (هود: 114).

أختنا الكريمة، إننا ندعوكِ إلى استثمار هذه القدرة التي لديك والموهبة، في إبداع الأعمال التي تخدمين بها دينك وبَني أمتك، فالقلم الذي يستطيع الإبداع، يمكن لصاحبه أن يغمسه في المداد الذي يريده، ليجري على الصفحات بما استقر في القلب وتمكَّنَ من الجَنان.

لا تحكمي على موهبتك بالإعدام، ولا تخنقيها لتموت، فإن ما يُحزن القلب ويؤلمه، أننا نجد الكثير من أصحاب المواهب النافعة عندما يمُنُّ الله عز وجل عليهم بالالتزام بعد الضياع، والهُدَى بعد الضلالة – نجدهم يعتزلون الحياة ويدفنون مواهبهم وإمكاناتهم وقدراتهم، ولو أنهم استثمروها في خدمة قضايا أمتهم لحققوا الكثير من الخير لدينهم ولأنفسهم ولبني أمتهم.

فما أحوج الإسلام لكل قلم يدعو وينافح ويبدع، أيا كانت نوعية هذا الإبداع.

أما ما تحكين عنه من انصراف الناس عنك، وغلق الأبواب دونك، وصَمَم الآذان عن سماع كلماتك، بعد أن سلكتِ طريق الالتزام، فإن هذه كلها أعراض طبيعية، وكان عليك أن تتوقعي حدوثها؛ ولقد ذكِّرني كلامك بالممثلات اللاتي ينعم الله عليهن بالتوبة ونبذ المعصية، وما يلاقينه بعد التزامهن من حرب شعواء، وإغراءات وفتن، وتنكُّر من الأصدقاء والأتباع الذين كانوا يتمنون لحظة رضًى منهن.

إن ما يحدث معك سُنة طبيعية درج عليها البشر في القديم والحديث، ألم تسمعي ماذا قال قوم ثمود لنبيهم صالح -عليه السلام- بعد أن أعطاه الله النبوة والرسالة: ﴿قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ (هود: 62)، لقد كانوا يعدُّونه كبيرهم وحكيمهم قبل النبوة، فلما جاءته النبوة وبدأ في دعوتهم لتوحيد الله عز وجل، ونبْذ ما يعبدونه من أوثان، نسُوا حكمته وعِلمه، وقالوا كلماتهم تلك اتباعًا لهواهم وخبث طويتهم.

ونرى نفس القصة تتكرر مع نبينا صلى الله عليه وسلم، حيث كان قومه يلقبونه بالصادق الأمين، ويعرفون له فضله وكرامته، فلما جاءته النبوة ودعاهم لله عز وجل، وصموه بالكذب والسحر والكهانة... إلى آخر تلك الأوصاف المفتراة.

وانظري – أختي الكريمة – إلى هذا المشهد الذي يشهد على ظلم بني البشر لأنفسهم وللناس، ولاستعداد بعضهم أن يغير معتقده في لحظة، ويقول الشيء وضده في نفس المجلس، اتباعًا لهواه، دون وازع من خُلُق أو دين:

لقد كان عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- من أكبر علماء اليهود، ثم منَّ الله -عز وجل- عليه بنعمة الإيمان والإسلام، وروى الإمام البخاري أن عبد الله ذهب للنبي -صلى الله عليه وسلم- وقال له: أشهدُ أنك رسول الله، وأنك جئت بحقٍّ، وقد علمت يهود أني سيِّدهم وابن سيِّدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني قد أسلمت، فإنهم إن يعلموا أني قد أسلمت قالوا فيَّ ما ليس فيَّ. فأرسل نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فأقبلوا فدخلوا عليه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر اليهود، ويلكم، اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو، إنكم لتعلمون أني رسول الله حقًّا، وأني جئتكم بحق، فأسلموا». قالوا: ما نعلمه، قالها ثلاث مِرارٍ، ثم قال: «فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟». قالوا: ذاك سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا. قال: «أفرأيتم إن أسلم؟». قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم، قال: «أفرأيتم إن أسلم؟». قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم، قال: «أفرأيتم إن أسلم؟». قالوا: حاشا لله ما كان ليسلم، قال: «يا ابن سلام، اخرج عليهم». فخرج فقال: يا معشر اليهود، اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو، إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بحق. فقالوا: كذبت، فأخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمشهد غني عن التعليق.

إن جمهورَك وقُرَّائك لا بد بالطبع أن يقلُّوا، فالسُّنة الربانية الثابتة: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾ (يوسف: 103)، ﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ (الأنعام: 116)، فالأخيار دائمًا هم القلة، أما جمهور الخبيث من الأقوال والأفعال فكثير كثير.

لذا لا ينبغي أن يكون من نتائج ذلك أبدًا شعورك بالهزيمة النفسية أمام هذه العوارض، بل الأولى أن تدفعك إلى الثبات ومواجهة التحدي، وإثبات ذاتك في ميدان الأدب النظيف، رضي بذلك جمهورك القديم أم لم يرضَ. ولتبحثي عن ميادين جديدة تشاركين فيها بقلمك إن أغلقت دونك الميادين القديمة، وفي المواقع والمنتديات والمجلات والصحف النظيفة متسع لك ولأقرانك.

إما أن تنغلقي على نفسك، وتتحسري على الأيام الخوالي، مما قد يؤدي إلى اهتزاز ثقتك بنفسك وبربك، فهذا بالضبط ما يريده منك الشيطان وأعوانه، أن يضلوك عن سبيل الله بعد أن اهتديت إليها، بقذف هذه المشاعر السلبية في قلبك وعقلك.

وفقك الله وأعانك وسدد خطاك، وتابعينا بأخبارك.