الإستشارة - المستشار : د. أميمة السيد
- القسم : تربوية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
85 - رقم الاستشارة : 1698
24/04/2025
"تحت الابتسامة البريئة التي يراها الناس، يختبئ عالم من الأوجاع التي لا يعلمها إلا الله..
"كنت أعيش في وهم أن بساطتي هي سر قوتي، وهي السلاح الذي أواجه به هذا العالم القاسي. كنت أظن أن تواضعي وابتسامتي العفوية سيجعلاني محبوبة، ستكونان درعي ضد الحقد والشر في هذا العالم الممتليء بالزيف والكذب .
لكنني كنت أعيش في فقاعة... ومع مرور الأيام، اكتشفت أن هذه البساطة جعلتني هدفًا لكل من يحمل قلبًا مشوها مملوءًا بالعداوة، وأصبحت شعبيتي وقوة قلبي مصدرًا لإثارة الحسد والغيرة.
ابتسم لهم ، وأخفي أحزان تراكمت في قلبي وجروح لا أحد يعلم بها إلا الله.
وتحت تلك الابتسامة التي تظنها الناس تفاؤلاً، يختبئ بحر من الآلام العميقة وليلة مظلمة من الأوجاع وحتى أصبحت تلك النظرات الظاهرة حبلا تلتف حول عنقي وتزيدني خنقًا، رغم أنني ما زلت أتظاهر بالقوة.
ثم جاء ذلك اليوم الذي ظننت فيه أنني أخيرًا وجدت شخصًا يمكنني أن أفتح له قلبي، صديقة أتمنى أن تكون جزءًا من حياتي. كنت أراها نورًا في ظلمات حياتي، وكنت أفتخر بها وأعرفها لكل من حولي. وفي كل زيارة، كنت أستمتع بمشاركة اللحظات الجميلة معها مع صديقات أخريات.
ولكن ما حدث؟ لم يمضِ وقت طويل حتى رأيتهم يتجمعون خلف ظهري، يضحكون معًا، يتشاركون لحظات كانوا يجتمعون من دوني. أصدقاء كانوا فقط بالاسم، ولكن الحقيقة أنهم كانوا يضحكون علي ومن صراحتي وصرت موضوع حديثهم لتقييم شخصيتي وسلوكي .
كيف يمكنني أن أواجه تلك اللحظات؟ كيف يمكنني أن أصدق أن من كنت أعتبرهم أصدقاء، هم أنفسهم الذين يسرقون مني كل شيء؟ أرى الخيانة في عيونهم، والسيوف الجارحة بألسنتهم ويزداد الألم عندما أراهم يقتسمون ما كان لي ويقلبون علي من أحب.
عندما اكتشفت تلك الوجوه المقنعة ، تساءلت: هل يجب أن أخفي أصدقائي عن بعضهم البعض؟ هل يجب أن أعيش في عزلة، لا أسمح لأحد باكتشاف أسراري؟ هل يجب أن ألبس قناعا أو عدة أقنعة لأستطيع العيش بهذا المجتمع المقنع ...
من الغريب أنني حتى الآن لا أستطيع إيقاف دموعي التي تزداد كلما تذكرت كيف كنت أؤمن أن هذا العالم سيقبلني كما أنا. أنا التي لم أكن أطلب أكثر من القليل... لكن، في كل مرة أتطلع إلى المرآة، أرى فيها شخصًا أضعف مما كنت أظن. لماذا هذا الغدر؟ لماذا في كل مرة أفتح قلبي، أكتشف أنه قد تم سحقه بكل قسوة؟
هل ما أعيشه هو عقاب على بساطتي، على شفافيتي، على ابتسامتي التي تظنها الناس قوة؟ أم أنني ببساطتي أستحق أن أعيش هذا العذاب؟ لماذا لا أستطيع أن أكون مثل الآخرين؟ متماسكة، محصنة، وأنيقة في حياتي الاجتماعية؟
حبيبتي الغالية،
قرأت كلماتك وكأنني أقرأ رسائل قلبٍ أنهكه الألم، وضميرٍ ما زال نابضًا بالحياة رغم قسوة ما تعرض له.
لقد خطّت مشاعرك حروفًا تُظهر عمق الإحساس، ونقاء السريرة، وصدق المشاعر، حتى لكأنها تعبير عن آلاف الأرواح التي ذاقت مرارة الخذلان ممن أحبّت بصدق، ووثقت بمن لا يستحق.
أولًا: دعيني أطمئنك – ما تشعرين به طبيعي في ظل ما مررتِ به، لكنه ليس مقياسًا لقيمتك، ولا مبررًا للوم ذاتك.
إن ما تمرين به "صدمة علاقاتية" – Relational Trauma، وهي تجربة مؤلمة ناتجة عن خيانة الثقة، وتؤثر على طريقة إدراك الفرد للآخرين ولنفسه.
ولكن اعلمي أن ما حدث لا يعني ضعفًا، بل يدل على نبل صفاتك.
الطيبة، والبساطة، والابتسامة ليست عيوبًا، بل فضائل في زمنٍ عزّ فيه الوفاء.
ثانيًا: لا تتصوري أن ما تمرين به هو عقاب، بل هو ابتلاءٌ تطهيري
قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا}...
فما تمرين به هو زلزال وجداني، لكنه سينتهي كما تنتهي العواصف، وتبقى الأرض أصلب، والقلوب أصفى.
لا تظني أن الله غافل، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كتم غيظًا وهو قادرٌ على أن يُنفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يُخيّره في أي الحور شاء"؛ فما بالك بمن كتم الألم، وواصل العطاء رغم الطعن؟
ثالثًا: نعم، بعض الناس لا يستحقون دخول مساحات القلب.
نحن في علم النفس السلوكي، نُدرّب الأفراد على ما يُسمى: "Setting Healthy Boundaries" – ، أي وضع الحدود النفسية الصحية.
فليس كل من ابتسم لنا يستحق أن يعرف أسرارنا، وليس كل من صادقنا يستحق مكانًا في عمق حياتنا.
هناك فرق بين اللطف وبين الانفتاح المفرط. فمبدأ "الإفصاح الانتقائي" هو مهارة أسرية ونفسية تُعلّمنا كيف نفتح النوافذ لا الأبواب، ونمنح القلوب فرصة الاختبار قبل الثقة العمياء.
رابعًا: لا تقارني نفسك بمن يظهرون الصلابة الظاهرية
الكثير من "النفوس المحصنة" التي تبهرك، ترتدي أقنعة دفاعية تسمى في علم النفس: Defense Mechanisms مثل "التصنع الاجتماعي" – Social Masking أو "الإسقاط" – Projection ، وهي ليست قوة حقيقية، بل هي ضعف مموه.
قوتك الحقيقية، يا ابنتي، في أن تبقي إنسانة رغم كل ما حدث، أن تحافظي على قلبك حيًّا، لا ميتًا كقلوبهم.
خامسًا: ما تمرين به، قد يكون درسًا لا عقوبة
هل تعلمين ما الفرق بين الإنسان الناضج والطفل العاطفي؟
الناضج يتعلم من خيباته، ويعيد رسم حدوده، ويستبدل النهوض بالانكسار.
أحد السلف قال: "لا تكن وليًّا لله في العلانية، وعدوًا له في السر، ولا تكن عبدًا للناس في العلانية، وحرًّا منهم في السر"؛ فكوني أَمةً لله تعالى، لا لرأي الناس، ولا لتقلباتهم.
سادسًا: لا تخجلي حبيبتي من دموعك، فهي الدليل أنك ما زلتِ إنسانة حية
وقد بكى سيدنا يعقوب حتى ابيضّت عيناه، وما نقص من قدره شيء.
وأخيرًا، أود أن أُهديك هذه القاعدة التربوية النفسية:
"من لا يرى قيمتك، لا تُصغي إليه، ومن لا يعرف حدود الاحترام، لا تسمحي له باختراقك."
وإن أردتِ الحماية، لا ترتدي قناعًا، بل ارتدي "وعيًّا"، وبدلًا من أن تنعزلي، انفتحي لكن بحذر، وأحبي لكن بميزان.
* وهمسة أخيرة لقلبك غاليتي:
تذكّري، "الضربة التى لا تميتك ستقويك"؛ فكوني قوية وتعلمي من أخطائك دون الالتفات إليها؛ فالماضي شكّلك، لكن يجب ألا يُقيد مستقبلك.
رددي دائمًا: اللهم ارزقني قلوبًا صادقة، ونفوسًا سليمة، وأبعد عني كل نفس خبيثة لا تريد لي خيرًا.
قلبي معك، وقلوب الصادقين من الناس مثلك لا تموت، بل تتألّق رغم الألم. وكل تجربة تمرين بها اليوم، تصقلك لتكوني امرأة أقوى، أنقى، وأقرب إلى الله تعالى.