الإستشارة - المستشار : د. أميمة السيد
- القسم : تربوية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
207 - رقم الاستشارة : 1462
29/03/2025
أنا أم لطفل في الخامسة من عمره، وأعيش حالة من الحيرة والقلق حيال سلوكه وتصرفاته التي أجدها غير مألوفة مقارنةً بالأطفال في سنه. طفلي ذكي جدًا، لكنه في ذات الوقت حساس للغاية، يبكي بسهولة عند أدنى إحباط أو توبيخ بسيط، حتى لو كان برفق. كما أنه يرفض اللعب مع الأطفال في سنه، ويفضل الجلوس بمفرده أو مع الكبار، وغالبًا ما يطرح أسئلة تفوق مستوى عمره بكثير، تتعلق بالحياة والموت والكون، مما يضعني في مأزق في كثير من الأحيان.
الأمر الأكثر غرابة أن طفلي يكره الضوضاء، وينزعج بشدة إذا ارتفعت الأصوات من حوله، حتى لو كانت أصوات لعب وضحك الأطفال، ويفضل الجلوس في أماكن هادئة. كما أنه شديد التعلق بي، لدرجة أنه يرفض الذهاب إلى الروضة أحيانًا بحجة أنه يشعر بعدم الراحة، وعندما أسأله عن السبب، يكتفي بالقول: "لا أحب ذلك المكان"، دون توضيح واضح.
حاولت إدماجه في الأنشطة المختلفة، لكنه سرعان ما يفقد الاهتمام، إلا إذا كانت الأنشطة تتعلق بالرسم أو التأمل في الطبيعة. أما الأنشطة الجماعية، فإنه يرفضها بشدة. بدأت أشعر أن طفلي مختلف، ولا أدري هل هذا أمر طبيعي أم أن هناك مشكلة تحتاج إلى تدخل تربوي أو نفسي؟ وكيف يمكنني مساعدته ليكون أكثر اندماجًا مع أقرانه دون أن أضغط عليه؟ وهل أحتاج إلى تغيير طريقتي في التعامل معه؟
أرجو منك توجيهي بحكمة ومنطق، فأنا أخشى أن أرتكب أخطاء تؤثر على نموه النفسي والاجتماعي في المستقبل.
عزيزتي الأم،
أشكرك على وعيك التربوي العميق وحرصك على فهم طفلك بدقة؛ فالكثير من الأمهات قد يغفلن عن مثل هذه التفاصيل الدقيقة في سلوكيات أطفالهن.
إن ما تلاحظينه على طفلك قد يشير إلى عدة أمور تربوية ونفسية، وسأقوم بتفنيدها وشرحها لكِ لتتمكني من التعامل معها بحكمة وهدوء إن شاء الله تعالى:
١- طفلكِ يظهر عدة سمات تشير إلى أنه قد يكون من الأطفال الحساسين مرتفعي الذكاء، وهو ما يطلق عليه في علم النفس التربوي "Gifted and Highly Sensitive Child". هؤلاء الأطفال يتميزون بقدرة عقلية متقدمة، مع حساسية عاطفية مفرطة. ومن أبرز صفاتهم:
- الانزعاج من الأصوات العالية أو الضوضاء.
- الاهتمام العميق بأسئلة تفوق أعمارهم.
- الحساسية الشديدة تجاه النقد أو التوبيخ (Emotional Overexcitability).
- كذلك ميلهم للعزلة أو مرافقة الكبار بدلاً من أقرانهم (Social Maturity).
٢- طفلك ينجذب إلى الأنشطة الفردية مثل الرسم والتأمل في الطبيعة، مما يشير إلى أنه يتمتع بشخصية تأملية (Reflective Personality) ويفضل الأنشطة الإبداعية على التفاعلات الاجتماعية الصاخبة.
وهذا ليس عيبًا، ولكنه جزء من تكوينه النفسي؛ لذا ينبغي عدم إجباره على المشاركة في ألعاب جماعية إذا لم يكن مرتاحًا لها، فمن الحكمة أن نراعي طبيعة الطفل ونوجهه بما يناسبه.
٣- تعلق الطفل الزائد بأمه، ورفضه الذهاب إلى الروضة قد يكون مؤشرًا على قلق الانفصال أو ما يعرف باسم (Separation Anxiety).
هذا القلق ليس مشكلة في حد ذاته، لكنه قد يحتاج إلى تعامل تدريجي لتشجيعه على الاستقلال.. وهنا يمكنك أن تجربي الآتي:
- اصحبيه في البداية لفترات قصيرة إلى الروضة، ثم ابدئي بتقليل وجودك تدريجيًّا.
- قدّمي له شيئًا يذكّره بكِ أثناء وجوده هناك، مثل قطعة قماش أو دمية صغيرة يحبها.
- استخدمي أسلوب التطمين اللفظي، مثل: "أنا أثق بك، وأنت قادر على قضاء وقت ممتع مع أصدقائك".
وأكرر أن التدرج التربوي معه مطلوب جدًّا، ولقد علمنا النبي ﷺ: "علموا أولادكم الصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع..."، وهذا الحديث يشير إلى أهمية التدرج في تعليم الطفل الاستقلالية دون إجبار أو عنف نفسي.
٤- من الضروري أن نحترم طبيعة الطفل، لكن في الوقت نفسه نساعده تدريجيًّا على الاندماج الاجتماعي، وذلك لتعزيز اندماجه الاجتماعي دون ضغط.
* وإليك عزيزتي بعض الاستراتيجيات التي قد تساعدك:
١- ابحثي عن أطفال يشبهونه في اهتماماته لكي يتفاعل معهم؛ فالأطفال الموهوبون يفضلون التفاعل مع من يشاركونهم اهتماماتهم.
٢- استخدمي أسلوب "اللعب المُوجه".. أي إدماجه في أنشطة جماعية تدريجيًّا، مثل الرسم مع مجموعة صغيرة، ثم الانتقال لاحقًا إلى أنشطة اجتماعية أكثر.
٣- عززي ثقته بنفسه.. فبدلاً من التركيز على أنه "منعزل"، قولي له: "أنت شخص مميز وتفكر بطريقة رائعة، وهذا شيء جميل".
أما بالنسبة لطرحه للأسئلة الفلسفية، فعند طرحها منه عليك، فيجب الانتباه والتركيز علي استثمارها بشكل جيد.. فطفلك -ما شاء الله- لديه ميل طبيعي للتفكير الفلسفي والتأمل العميق.
فلا تتجاهلي أسئلته، بل حاولي تقديم إجابات تتناسب مع سنه دون تعقيد، على سبيل المثال، إذا سأل عن الحياة والموت، يمكنك القول: "الله خلقنا لنعيش ونفعل الخير، وعندما ينتهي عمر الإنسان، ينتقل إلى حياة أخرى جميلة عند الله".
فطفلك يسأل دائمًا عن المجهول؛ لأنه يمتلك شغفًا بالمعرفة، ولذلك ينبغي تنميته لا كبحه.
* أما إذا لاحظتِ أن طفلك يزداد عزلة، أو أنه يعاني من قلق مفرط يعوق حياته اليومية، فقد يكون من المفيد استشارة مختص في علم نفس الطفل (Child Psychology) للتأكد من عدم وجود مشكلات مثل: اضطرابات الحساسية الزائدة (Sensory Processing Disorder) أو القلق الاجتماعي (Social Anxiety Disorder).
* وإليك عزيزتي الأم همسة أخيرة:
طفلك ليس غريبًا، بل هو طفل يتمتع بذكاء فطري وحساسية عاطفية تحتاج إلى رعاية خاصة؛ فلا تحاولي تغييره بالقوة، بل ادعميه بطرق تناسب شخصيته الفريدة.. واحترمي هدوءه، وقدّري حساسيته، وشجعيه على الاندماج تدريجيًّا دون ضغط.
أسأل الله أن يبارك لكِ في طفلك، وأن يرزقكِ الحكمة والصبر أثناء تربيته.