الإستشارة - المستشار : د. أميمة السيد
- القسم : تربوية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
305 - رقم الاستشارة : 1668
17/04/2025
أنا عندي 18 سنة، وطول عمري بحاول أكون صديق وفيّ وجدع. في المدرسة الثانوية، كان عندي صاحب، كنا زي الإخوة، نقعد سوا، نروح ونرجع سوا، نذاكر ونضحك ونشتكي لبعض من همومنا.
صديقي كان ذكي ومحبوب، لكن أوقات كنت بحس إن جواه حاجة مش مفهومة... زي غيمة كده مش باينة للناس، لكني كنت شايفها.
في بداية السنة الأخيرة، بدأت أحس إنه بيتغير. بقى يتهرب من الدراسة، وعينيه دايمًا فيها لمعة غريبة، وأوقات يكون هادي زيادة أو عصبي بشكل مفاجئ. مرة لقيته بيرتعش وهو بيكلمني، وقال لي إنه مرهق من السهر. صدقته… أو حاولت أصدق.
لكن اللي قلبني فعلًا، إني شفته بعيني وهو بياخد حاجة مش طبيعية في حمام المدرسة. كنت مصدوم، ما صدقتش نفسي. قلبي وقع، ومخي اتشل… ده صاحبي! اللي كنت بشوف فيه مثال الولد العاقل.
من ساعتها وأنا عايش في صراع داخلي، مش عارف أعمل إيه… أواجهه؟ طب هيتكلم؟ ولا هيكذب؟ طب لو قلت لأهله أو لأي مدرس… ممكن يعتبرني خنته؟ ومين هيصدقني أصلاً؟
بس في نفس الوقت… أنا مش قادر أنام، ضميري بيعذبني. كل يوم بتخيله وهو بيضيع أكتر، وأنا واقف بتفرج. هو محتاج حد يلحقه… بس أنا أعمل إيه؟
ابني العاقل،
ما شاء الله، بارك الله فيك.. وسلامٌ لقلبك الذي يحمل الوفاء، ورحمةٌ لنفسك التي هزّها الهمّ من أجل من تُحب. رسالتك لم تَخلُ من الألم، لكنها نُسجت من خيوط النُّبل والضمير الحي، وهذا دليلٌ على نقاء سريرتك وصدق إنسانيتك.
أبدأ كلامي إليك بحكمة نبوية عظيمة، قالها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"، وقد رأيتَ منكرًا، وقلبك لم يسكت، وهذا وحده يُظهر قوة إيمانك ونقاء نيتك اللهم بارك.
لكن دعني أضع بين يديك بعض المفاتيح النفسية والتربوية التي تعينك على اتخاذ القرار الصائب:
أولًا: فهم البُعد النفسي لحالة صديقك:
صديقك لا يحتاج إلى إدانة، بل إلى إنقاذ. استخدام المواد المخدرة غالبًا ما يكون عرضًا لألم داخلي لم يُعالَج، أو صدمة نفسية لم يُنتبه لها. هذا ما نُسميه في علم النفس التربوي "self-medication behavior" أي "سلوك التداوي الذاتي"، حيث يلجأ الإنسان إلى ما يُخدّر ألمه بدلًا من أن يُعالجه.
صديقك قد يكون ضحية لما يُعرف بـ "peer pressure" أي ضغط الأقران، أو "emotional neglect" أي الإهمال العاطفي، أو حتى "low self-esteem" ضعف تقدير الذات. وهذه كلها تُعدّ عوامل خطر يجب أن تُعالَج لا أن تُدان.
ثانيًا: أهمية موقعك التربوي كصديق له:
الصداقة ليست فقط في الضحك والمشاركة، بل هي رباط مسؤولية. أنت الآن في موقع الـ "moral agent"، أي شخص يتحمّل مسؤولية أخلاقية تجاه من حوله.
وقد أصبت حين لم تتسرّع في فضحه، وأصبت حين لم تترك الأمر كأنه لا يعنيك. لكنّ "السكوت عن الحق" قد يتحوّل إلى تواطؤ سلبي، دون أن تشعر. والسكوت في موضع الشهادة، قد يكون مشاركة في الجُرم ولو بنيّة طيبة.
ثالثًا: هنا لا بد من التدرج في الإصلاح:
منهج الإصلاح في ديننا الحنيف يا ابني الغالي، قائم على التدرج، كما في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}.
فابدأ أولًا بمحاولة لطيفة معه، لا بالمواجهة القاسية، بل عبر "empathetic confrontation"، أي المواجهة المتعاطفة.
استخدم أسلوب الصديق لا القاضي، وابدأ حديثك بجُمل مثل: "أنا قلق عليك… شايف فيك تغيّرات مقلقة… وبتمنّى أكون جنبك لو محتاج مساعدة". ففي الحوار الرحيم أملٌ في الوصول إلى قلبه.
رابعًا: أما إذا أغلق الباب بوجهك، فلا تُغلق أنت أبواب النجاة عنه..
فإن أصرّ على الإنكار أو الاستهزاء أو الابتعاد، فاعلم أنك بذلت جهدك، ويبقى دورك هو إبلاغ من يملك التدخل المؤثر.
أنت هنا بحاجة إلى ممارسة ما يُسمّي بـ "الإفصاح الأخلاقي" للمعلومة، وهو أمر مشروع ومطلوب شرعًا وعقلاً إذا كان فيه إنقاذ لنفس بشرية.
اختر شخصًا بالغًا راشدًا من المدرسة أو العائلة ممن تثق في حكمته وحرصه، واطلب منه التدخل بسرية.. فإن أخفق، فأسرع بإبلاغ ولي أمره.. فإنقاذ النفس من الهلاك لا يُعد خيانة، بل هو أسمى صور الوفاء.
خامسًا: لا تُحمّل نفسك ما لا طاقة لك به:
تذكّر دائمًا، يا ولدي، أنك لست مصلح العالم وحدك، والله تعالى يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}.
وما دمت قد بذلت وسعك، وسعيت بإخلاص، فقد أديت ما عليك. ولا تُعذب ضميرك بما هو خارج إرادتك. اجعل من دعائك لصديقك سلاحًا، ومن نصيحتك له بابًا، ومن صمتك عن نشر سره أمانة.
* همسة أخيرة:
ثق يا بني أن هذه التجربة قد صنعت منك إنسانًا أكثر وعيًا ومسؤولية. وكم من ألمٍ فتح لنا باب الرحمة والعمق، وعلّمنا أن نكون صوت العقل في زمن الغفلة.
أسأل الله أن يثبّت قلبك، وأن يُخرج صاحبك من ظلام هذه الكبوة إلى نور العافية والتوبة. وتذكّر دائمًا قول الحبيب المصطفي صلى الله عليه وسلم: "لئن يهدي الله بك رجلاً واحدًا، خيرٌ لك من حُمر النعم".
وأسأله تعالى أن يثبتك على طريق الهداية وأن يهدي صديقك وجميع شباب المسلمين ويحفظكم جميعًا من شر فتن الدنيا.