الإستشارة - المستشار : د. أميمة السيد
- القسم : تربوية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
326 - رقم الاستشارة : 1815
01/05/2025
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
يا دكتورة أميمة، أنا أب مكسور الجناح، لجأت إليكِ بعد أن ضاقت بي الدنيا بما رحبت.
ابني ذو السبع سنوات، قرة عيني وفلذة كبدي، تعرض لاعتداء جـنسي مؤخرًا.
اكتشفت الأمر بمحض الصدفة، ومنذ تلك اللحظة وحياتي تحولت إلى جحيم لا يطاق.
ألاحظ عليه تغيرات جذرية في سلوكه.
أصبح انطوائيًّا وشارد الذهن معظم الوقت. يخاف من الظلام ومن البقاء بمفرده، ويبكي فجأة بدون سبب واضح. نومه مضطرب، يستيقظ فزعًا في الليل، وأحيانًا يتبول لا إراديًّا في فراشه بعد أن كان قد توقف عن ذلك منذ فترة طويلة.
حاولت التحدث معه بهدوء، ولكنني لم أستطع أن أجعله يفصح عما حدث بالتحديد.
يبدو خائفًا ومذعورًا، وكأن هناك سرًا ثقيلاً يكتم على صدره ويمنعه من الكلام.
كلما حاولت الاقتراب من الموضوع، ينكمش على نفسه ويرفض الحديث.
الأمر الذي يزيد من قهري وألمي هو أنني علمت أن العلاج النفسي لمثل هذه الحالات مكلف جدًّا، ويتطلب جلسات مطولة مع متخصصين. بصراحة يا دكتورة، إمكانياتي المادية متواضعة جدًا، ولا أعرف كيف سأتمكن من توفير هذا العلاج لابني.
أشعر بالعجز واليأس، وكأنني أقف مكتوف الأيدي أمام هذا الجرح الغائر في نفس ابني، ولا أملك القدرة على تضميده.
أنا تائه يا دكتورة، لا أعرف كيف أتصرف، وكيف يمكنني أن أساعد ابني لتجاوز هذه المحنة القاسية. كيف يمكنني أن أتعامل مع خوفه وصمته؟ كيف يمكنني أن أُشعره بالأمان والحب من جديد؟ والأهم من ذلك، كيف يمكنني أن أوفر له العلاج الذي يحتاجه وهو فوق طاقتي المادية بكثير؟
قلبي يتمزق لرؤيته هكذا، وأخشى أن تترك هذه التجربة الأليمة ندوبًا عميقة في شخصيته وروحه مدى الحياة.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته أيها الأب المكلوم،
وصلتني رسالتك، وقرأت بين سطورها الألم والمرارة والانكسار، ولمستُ في كلماتك حبًّا جارفًا، وحرصًا أصيلاً على احتواء ابنك، رغم ما ينهش قلبك من قلق وعجز.
أول ما أودّ أن أقوله لك: لست وحدك، والله معك، ولن يضيع أجر صبرك وسعيك، فقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}، وجهادك هنا هو جهاد أب يتألم من أجل ابنه، ويبحث عن طريق النجاة له، وهذا من أعظم أبواب الإحسان.
أيها الأب الرحيم،
ما تعرض له طفلك – حفظه الله – يُعد من الصدمة النفسية المبكرة (Early Childhood Trauma)، وهي التي تولد اضطرابات ناتجة عنها تُصنّف ضمن ما يُعرف في علم النفس بـTrauma-Based Disorders، وقد ينتج عنها أعراض مثل الانسحاب الاجتماعي، اضطراب النوم، البول اللاإرادي، وكذلك نوبات الفزع.
وهذا كله يظهر على ابنك، مما يدل على أنه يحتاج إلى تدخل نفسي داعم وعلاجي هادف، لكنه –وبشرك الله بالخير– ليس دائمًا باهظ الثمن كما يُشاع، ويمكن بإذن الله تعالى التعامل معه بوسائل متعددة، بعضها منزلي مدروس وبعضها مجاني أو رمزي، وسوف أوجهك كيف تتعامل، وإلى أين تكون اتجاهاتك.
وقبل كل شيء لا بد وفورا من توقيع الكشف الطبي عليه، لسرعة علاج الآثار والمضاعفات نتاج هذا الاعتداء الجنسي عليه.. ثم نبدأ في اتجاهين آخرين للعلاج والاحتواء:
أولًا: فيما يخص التعامل النفسي الأسري:
1- احتضنه بلا أسئلة..
في هذه المرحلة لا يحتاج طفلك إلى تحقيق، بل إلى حضنٍ يشعر فيه بالأمان والانتماء. كُن له وطنًا صامتًا، دافئًا، لا يسأله عن شيء، بل يترك له باب الحديث مفتوحًا دون ضغط.
2- لغة الجسد قبل لغة الفم.. جلسات اللعب العلاجي (Play Therapy) يمكن أن تبدأ في البيت بأدوات بسيطة: الرسم، التمثيل، العرائس، أو حتى اللعب بالرمل والعجين.
كثير من الأطفال يُخرجون ما بداخلهم دون كلمات من خلال اللعب، وهو أسلوب معتمد نفسيًّا وآمن جدًّا.
3- طمئنه أن الذنب ليس ذنبه.. بشكل غير مباشر، كرّر أمامه أن الأطفال لا يُلامون على ما يفعله الكبار، وأنه محبوب ومحمي. لا تُصرّ على معرفة التفاصيل، فقط أكد له دائمًا أن الخطأ لم يكن خطأه.
4- استرجاع الأمان بالتكرار..
وفّر له روتينًا يوميًّا ثابتًا (ثبات النوم، الأكل، أوقات اللعب) لأن الثبات يعيد للطفل الشعور بالسيطرة.
٥- أعد بناء الثقة الجسدية..
إذا بدأ يرفض اللمس أو القرب، لا تقتحم مساحته، بل اطلب الإذن برقة، وابدأ بأبسط الحركات: "هل تحب أن أحملك اليوم؟ هل أقبّلك قبلة حب من بابا أو ماما فقط؟"، فاستعادة الثقة تمر عبر التعامل الآمن واحترام الحدود.
ثانيًا: أما ما يخص الجانب العلاجي المهني (Professional Therapeutic Support):
فلا تُثقل قلبك بمخاوف التكاليف؛ هناك مراكز علاج نفسي حكومية وجمعيات أهلية تُقدّم جلسات مجانية أو رمزية، وتوجد الآن الكثير من المبادرات المجتمعية التي تُراعي ظروف الأسر.
فاطلب من طبيب الأطفال أو المدرسة توجيهك لأقرب مركز دعم نفسي للأطفال (Child Protection & Mental Health Support).
وأحيانًا قد تبدأ الجلسات بالوالدين فقط، ليتعلّما كيفية المساندة العاطفية السليمة، قبل إدخال الطفل في جلسات مباشرة.
ثالثًا: التوجيه الإيماني التربوي، له دور بارز في تعافي الطفل نفسيًّا:
- حدّثه عن رحمة الله، لا بأس في أن تقول له بلغة الأطفال: "الله يحبك، والله لا يرضى أن يؤذيك أحد، ونحن معك، ولن نسمح أن يحدث لك شيء مرة أخرى".
- علّمه آيات التحصين دون ترهيب، مثل آية الكرسي والمعوذتين وسورة الإخلاص.. واجعلها جزءًا من روتين ما قبل النوم.
وأخيرًا: إليك هذه التوصيات العملية:
1- لا تُظهر انهيارك أمامه؛ فهو يحتاج إلى سند قوي.
2- لا تذكر ما حدث أمام الآخرين أو أمامه؛ حتى لا يتشكل عنده الوصم النفسي، أو الـ (Psychological Stigma).
3- خصص له وقتًا يوميًّا للعب أو الحديث – ولو ١٠ دقائق – دون أجهزة أو مشتتات.
4- لا تُشعره بأن سلوكه يُراقب؛ عامله كما كنت تعامله قبل الحادث، مع زيادة المحبة والحنان.
٥- لا تنس أن تحذره دائمًا بلطف من حكة الشرج مهما شعر بألم في المكان أو حاجة لهذه الحكة (الهرش). فبعض الحالات، تكمن خطورتها هنا في أن يشعر الطفل براحة نفسية بعدها، حتى لا يميل لا قدر الله إلى الشذوذ.. والطبيب سوف يقرر له نوعًا من الكريم العلاجي لتفادي الأمر إن شاء الله تعالى.
* وهمسة أخيرة للأب الفاضل:
اعلم يا عزيزي أن ما تفعله الآن هو العلاج الحقيقي لطفلك؛ فالعلاج ليس في تكلفة الجلسة، بل في احتوائك واحتضانك، وفي ثباتك بجانبه حتى يشفى.
وقد قال النبي ﷺ: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته"، وأنت راعٍ عظيم، صدقت في الرعاية، وجاهدت في المسؤولية.. وما حدث من ابتلاء حتمًا كان رغمًا عنك، فلا تجلد ذاتك.
اصبر، وتوكل، وسترى –بإذن الله تعالى– أثر هذا الجبر؛ فالله لا يضيع من طرق بابه وطلب عونه.
مع خالص دعائي لابنك بالشفاء التام، ولنفسك وكذا والدته بالصبر والقوة.