الإستشارة - المستشار : د. أميمة السيد
- القسم : الشباب
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
136 - رقم الاستشارة : 2416
20/08/2025
بعد ١٠ سنوات من العيش خارج سوريا عدت لأجد نفسي غريبًا في وطني؛ أعاني من صعوبة التأقلم مع انقطاع الخدمات والبطالة وضعف الفرص، وأشعر بالعزلة لأن الناس يعتبرون حديثي عن النظام والتطور نوعًا من التكبر.
في المقابل، أطفالي غير متقبلين للحياة هنا ويحلمون بالعودة، مما يضاعف ضغوطي النفسية.
كما أنني أواجه مشاعر سلبية من البعض الذين يرون العائدين بمظاهر الرفاهية وكأنهم لم يعيشوا معاناة الحرب، فيتولد لديهم حقد وغضب.
هل ما نعيشه من اكتئاب، عزلة، وغضب تجاه الآخر أمر طبيعي بعد العودة؟ وكيف يمكن تجاوز هذه الصدمة والتكيف مع الواقع الجديد؟
أخي الكريم،
أسأل الله أن يشرح صدرك، ويثبت قلبك، ويعينك على ما تمر به من ضغوط وتحديات بعد عودتك إلى وطنك. إن ما وصفته من شعور بالغربة، وفقدان الاستقرار، والعزلة الاجتماعية، بل وحتى المقارنة المؤلمة بين ما كنت تعيشه في الخارج وما تواجهه الآن؛ هو أمر طبيعي جدًّا من الناحية النفسية، ويُعرف في علم النفس بمفهوم "صدمة العودة"Reverse Culture Shock.
أولًا: لا بد أن تعي أنه لأمر طبيعي:
فحين يعود الإنسان من بيئة مستقرة ومنظمة إلى بيئة مضطربة مليئة بالتحديات، تحدث فجوة معرفية وانفعالية. وهذه الفجوة تثير التنافر المعرفي (Cognitive Dissonance) بين ما اعتاد عليه المرء من قيم النظام والانضباط، وبين ما يراه أمامه من فوضى وضعف خدمات. كذلك يُصاحب هذا الوضع شعور طبيعي بـ الإحباط والاغتراب الاجتماعي.
ولا تنسَ أن سنوات الحرب التي عاشها أهلك وغيرهم تركت فيهم نمطًا من التكيف مع الظروف، بينما أنت عشت أنماطًا أخرى؛ لذا يحدث سوء فهم بينكم، يصل أحيانًا إلى اتهامك بالتكبر لمجرد أنك تختلف في الرؤية.
ثانيًا: وهنا من الضروري احتواء الذات والآخرين:
- عليك أن تدرك أن الحوار مع أهلك والمحيطين بك يحتاج لغة هادئة قائمة على التعاطف بدلًا من لغة النقد المباشر. هم لم يعيشوا ما عشته في أوروبا، وأنت لم تعش معاناتهم في الحرب؛ فالتوازن يقتضي فهم ظروف الطرفين حتى وإن كنت عشتها معهم من قبل.
- كذلك التواصل مع الأبناء: من المهم أن تُنصت لأبنائك وتشاركهم مشاعرهم بالصدق. لا تُنكر عليهم حنينهم للعودة، لكن اجعلهم يرون فيك نموذجًا للصبر والتأقلم، فهذا يُسمى في علم النفس التربوي النمذجة السلوكية (Behavioral Modeling)، حيث يتعلم الأبناء من استجاباتك أكثر مما يتعلمون من نصائحك.
- كما أنه ينبغي عليك التدرب على إدارة الغضب والغيرة المجتمعية: من الطبيعي أن تشعر بالغيظ حين ترى غيرك يتحدث عن رفاهية الخارج أو حين يسيء المقيمون الحكم على العائدين. لكن تذكر قوله تعالى: ﴿وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ﴾، هذه المشاعر دليل على جرح داخلي يحتاج إلى علاج بالرفق والصبر، لا إلى الانفجار أو الكبت.
ثالثًا: وما أستطيع مساعدتك به الآن، هى خطوات عملية للتكيف:
1- إعادة بناء الروابط: (Reconnection)
انخرط في أنشطة مجتمعية بسيطة، كخدمة الناس أو التطوع. هذا سيمنحك معنى ودورًا إيجابيًّا ويخفف العزلة.
2- تنظيم يومك:
ضع لنفسك جدولًا يوميًّا واضحًا يحاكي النظام الذي اعتدت عليه في الخارج؛ فالالتزام بالوقت يُشعرك بالسيطرة وسط الفوضى المحيطة.
3- كذلك تجنب المقارنة المستمرة بين الخارج والداخل، فهي تستنزف طاقتك. استبدل بها طرح سؤال عملي: "كيف أستطيع أن أُحدث تغييرًا إيجابيًّا ولو صغيرًا هنا؟"، لعل لله تعالى حكمة من عودتك في تغيير الوضع العام للأفضل قدر استطاعتك.
4- وبالطبع الدعم النفسي هنا مهم للغاية:
ابحث عن مجموعات دعم (Support Groups) سواء عبر الإنترنت أو في محيطك المحلي، فهي تتيح مشاركة التجارب وتخفيف حدة العزلة.. وربما وجدت ضالتك من خلالها للسفر والعمل في دولة أخرى.
5- وقبل كل هذا كن مع الله تجده دائمًا معك:
اجعل لك وردًا من القرآن والدعاء، فالذكر يطمئن القلب: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾، وليكن الحمد والشكر لله تعالى دائمًا على لسانك وداخل قلبك على نعمة الصحة وبقاء أعضاء جسدك سليمة وأبنائك بخير، مقارنة بالمعذبين من أبناء غزة أو المنكوبين من أبناء وطنك بسبب ويلات الحرب.
وأخيرًا، لتعلم يا أخي، أن ما تمر به ليس ضعفًا فيك، بل هو انعكاس طبيعي لفجوة التجارب والظروف. لست وحدك؛ كثير من العائدين يمرون بذات المرحلة من الاضطراب. لكن الفارق بين من يظل أسيرًا لهذه المشاعر ومن يتجاوزها هو المرونة النفسية (Psychological Resilience)، أي القدرة على التكيف والإصرار على استخراج المعنى من المحنة.
وتذكّر قول النبي ﷺ: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز".
فليكن همّك الآن ليس اجترار الماضي أو مقارنة الحاضر بالمفقود، بل أن تصنع لنفسك ولأبنائك مساحة من الأمل والعمل، مهما ضاقت السبل.
* همسة أخيرة:
شعورك بالاكتئاب والعزلة والغضب طبيعي، لكنه يحتاج إلى وعي وصبر وخطوات عملية للتكيف.
بالاحتواء الأسري، والتنظيم الشخصي، والدعم النفسي، والارتباط الروحي بالله تعالى، تستطيع أن تتجاوز هذه المرحلة وتحوّل "صدمة العودة" إلى "فرصة لإعادة البناء" بعون الله.