الإستشارة - المستشار : د. أميمة السيد
- القسم : الشباب
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
43 - رقم الاستشارة : 2017
20/05/2025
السلام عليكم دكتورة، أنا شاب عندي 27 سنة، والدي توفي من 8 سنوات، وكان عمر أمي وقتها 42 سنة، وأنا ابنها الوحيد، وهي ربتني وتعبت معايا كتير، وفعلاً وقفت جنبي في كل مراحل حياتي، ورفضت تتجوز رغم إنها كانت صغيرة وقتها. مؤخراً، فيه راجل محترم جداً من العائلة، أرمل، ومتدين، وطلب الزواج من والدتي، وهي مبدئياً مش رافضة، بس مستنية رأيي.
أنا بصراحة مش قادر أتقبل الموضوع، حاسس إن دي خيانة لوالدي، ومش متخيل إن أمي تكون لحد غيره. وفي نفس الوقت، أنا حاسس إني أناني، وكل اللي حواليا بيقولوا لي: "أنت كبرت ومش هتفضل جنبها طول الوقت"، وهي لسه صغيرة نسبياً وتستحق حياة مستقرة وسند.
أنا في صراع داخلي، بين خوفي على زعلها، وبين غيرتي وحزني. أنا مش عارف إذا كنت على حق، ولا لازم أغير وجهة نظري.
هل من حقي أرفض زواجها؟ وهل لو وافقت بأكون ببيع حب والدي؟ أرجوكِ جاوبيني بصراحة، لأني تايه بين مشاعري وبين الواقع.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
ابني الفاضل،
رائع ذلك البرّ الذي يسكن كلماتك، وهذا القلق الذي يعبّر عن عمق ارتباطك بوالدتك وحرصك على مشاعرها وكرامتها.
وما لمسته في رسالتك هو صراع داخلي حقيقي يعرف في علم النفس الأسري بـ (Emotional Ambivalence)، أي "التضاد الانفعالي"، ويتجلى حين تتنازعك مشاعر الحب والخوف والغيرة والحزن في آنٍ واحد، وهذا طبيعي ومفهوم، خصوصًا في حالة فقد الأب وارتباطك العميق بوالدتك الأرملة التي لعبت دور الأب والأم معًا.
ولكن دعني أبدأ من حيث ينبغي أن يبدأ الإنسان المنصف:
هل زواج والدتك الآن حلال؟ نعم.
هل فيه خيانة لوالدك؟ لا، إطلاقًا.
فالزواج بعد الوفاة أمر أباحه الشرع، بل شجّع عليه إن كان فيه مصلحة، كما قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾.
بل إن أم المؤمنين أم سلمة، كانت أرملة، وعرض النبي ﷺ الزواج عليها بعد وفاتها، وقالت له: "إني امرأة قد سلبتُ عزًّا، وإني امرأة فيَّ غيرة"، ومع ذلك تزوّجها رسول الله ﷺ، وكان زواجًا مباركًا. فإذا كانت أمهات المؤمنين تزوجن بعد وفاة أزواجهن، فهل نُضيّق ما وسّع الله؟
إنّ ما تمرّ به -يا بني- من ضيق وتوتر يُعرف نفسيًّا بـ (Role Confusion)، أو "تشوّش الدور"، وذلك أسريًّا، إذ لم تتقبل بعد فكرة أن تنتقل والدتك من كونها "أرملة وفية" إلى "زوجة لرجل آخر"، وهذا ناتج عن تعلّق غير ناضج، تُغذّيه ذكريات الطفولة ومثالية الصورة التي كوّنتها عن أسرتك.
ولكن يا بني، من المهم أن تفرّق بين الحب والامتلاك، وبين البرّ والسيطرة؛ فالحب الناضج هو: "تقبُّل خيارات الطرف الآخر وإن اختلفت عن توقّعاتنا، ما دامت لا تخالف الأخلاق أو الدين".
أنت قلتها بصدق: "هي لسه صغيرة وتستحق حياة مستقرة وسند"، وهذه الحقيقة.
قد تكون اليوم قويًّا، وغير مشغول عنها، ولكن من سيملأ عليها وحدتها بعد عشر سنين عندما تتزوج أنت وتنجب وتنهمك في عملك وتنخرط في مسؤولياتك الأسرية؟
أليست هي إنسانة لها احتياجات عاطفية واجتماعية؟
وعلميًّا فإن المرأة، بعد سنوات من الترمل، قد تمرّ بما يُسمى بـ (Psychosocial Loneliness)، أي "الوحدة النفسية الاجتماعية"، رغم وجود الأبناء حولها؛ لأنها بحاجة إلى شريك يُحادثها، يُشاركها التفاصيل الصغيرة، لا مجرد من يمرّ عليها من حين لآخر.
ولو تأملتَ قليلاً، لرأيت أن قبولك بزواجها لا يُنقِص من برّك بها، بل هو أعلى درجات البر الناضج، حين تقدّم سعادتها على مشاعرك المؤقتة، وتختار ما ينفعها في دنياها وآخرتها.
واعلم، يا بني، أن برّك بوالدك لا يكون برفض زواجها، بل بالدعاء له، والسير على خطاه، ومواصلة برك بأمك التي كانت شريكة عمره. وليس من البر بالميت أن نُعطّل حياة من أحبّ.
فكّر معها، لا عنها. واسأل نفسك بصدق: هل أمنعها حبًّا؟ أم خوفًا من التغيير؟ أم من نظرة المجتمع؟ وكلها مشاعر إنسانية، لكن لا يجوز أن تتحكّم في قرارات حياة إنسانة تستحق الدعم لا القيد.
ولذلك أنصحك بما يلي:
1- أعد تقييم مشاعرك بصدق. قد يساعدك التحدّث مع مستشار أسري لمساعدتك على إدارة الصراع الداخلي.
٢- اجلس مع والدتك جلسة صفاء، لا كابن صغير، بل كرجل ناضج، وكن داعمًا لحريتها ما دامت في طاعة الله.
٣- استخر الله أنت ووالدتك علي هذه الزيجة، ثم ادع الله أن يشرح صدرك ويزيح عنك الحيرة، فهو القائل: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾.
* همسة أخيرة:
إني لأختم بكلمات للإمام الشافعي رحمه الله:
دع الأيام تفعل ما تشاء ** وطب نفسًا إذا حكم القضاء
ثق أن الله تعالي سيرضى قلبك حين يرضى عقلك، وستطمئن نفسك حين توازن بين مشاعرك ومصلحتها، أسأل الله أن يريك الحق حقًّا ويرزقك اتباعه، ويبارك لك في والدتك وسيرتها.