الإستشارة - المستشار : د. يحيى عثمان
- القسم : أسرية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
86 - رقم الاستشارة : 1575
14/04/2025
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أنا رجل مسلم، هاجرت قبل سنوات من بلدي بسبب الحرب والدمار، واستقرّ بي الحال في دولة غربية. تزوجت هناك من امرأة مسيحية، كانت طيبة القلب، تقبّلت ديني وظروفي، وأنجبتُ منها ثلاثة أطفال. لكنّي الآن… لا أنام الليل من شدّة ما ينهش قلبي. بيتي الذي بنيته بعيدًا عن أرضي، أشعر أنه يبتعد يومًا بعد يوم عن ديني وهويتي. أطفالي يكبرون في بيئة لا تُشبهني، لغتهم العربية ضعيفة، صلاتهم منسية، وأحاديثهم لا أجد فيها رائحة الإسلام. زوجتي، رغم محبتها لنا، لا تُدرك حجم الفجوة التي تكبر بيني وبين أولادي، ولا ترى مشكلة في أن يعيشوا وفق ثقافة المجتمع الذي وُلدوا فيه… أما أنا، فأشعر أنني أراهم يذوبون أمامي… وأنا لا أملك إلا أن أتفرج. كلما تحدثت عن الحلال والحرام، أو حاولت غرس بعض القيم الإسلامية، وجدت الجفاء أو الغرابة في ردّات فعلهم. أصبحت أخاف… هل هذه هي القابلية للتطبيع التي تحدّث عنها العلماء؟ هل أنا من سلّم أبناءه طوعًا لثقافة تبتلعهم؟ هل زواجي من غير مسلمة، وقراري بالبقاء هنا، كان خطأً سيدفع أولادي ثمنه؟ أنا لا أتهم أحدًا، لكني أُعاتب نفسي… هل ضيّعت أمانتي كأب؟ وهل هناك طريق أعود به بأولادي إلى هويتهم، قبل أن يُصبح الوقت متأخرًا؟ أرجو منكم أن تدلّوني، فأنا الآن بين خوفي على ديني… وخوفي أن أفقد أسرتي.
في تحليلنا لهذه المشكلة التي تفاقمت في الآونة الأخيرة نتيجة لكثرة عدد المهاجرين للدول غير الإسلامية، سأتناول الهجرة والزواج بغير المسلمة وتحديات تربية الأولاد في الغربية:
الهجرة
هناك دوافع كثيرة للهجرة، ولكن العبرة من المنظور الإسلامي هي النية، يقول الله عز وجل {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (النساء: 100)، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين". رواه الترمذي والنسائي وأبو داود.
لقد أجمع أهل العلم على أنه لا يجوز للمسلم أن يقيم في بلاد الكفار إلا لضرورة أو حاجة ملحة أو مصلحة معتبرة. لذا يجب التفريق بين من تضطره بيئته الاسلامية إلى مغادرتها محافظة على حياته ومن يغادر لطلب العيش أو الدراسة أو أي سبب آخر وهذا يأثم -وهو ما يتناوله الحديث- إن لم يجدد النية في هجرته بأن تكون لله ويأخذ بأسباب النجاة.
التحديات التي تواجه الأسرة المسلمة بالغربة:
أولاً: الفرق بين التحدي والمشكلة
المفهوم النفسي الاجتماعي: التحدي هو حالة مستمرة تتطلب تفعيل كل القدرات الفردية والاجتماعية لمواجهة بيئة معاكسة للقيم الشخصية. بينما المشكلة هي موقف عابر قابل للحل.
في المنظور الإسلامي: التحدي مرتبط بالابتلاء والتمحيص، بينما المشكلة مرتبطة بالاجتهاد في إيجاد حلول شرعية وسليمة.
ثانيًا: تأثير الغربة كعامل نفسي-اجتماعي
الغربة في الغرب ليست فقط جغرافية بل فكرية وقيمية، وتؤثر على الهوية والانتماء، إن لم يأخذ المسلم بكل أسباب الوقاية والعلاج الفوري في حالة حدوث مشكلة تتعارض مع دينه.
الأسرة المسلمة تواجه ضغوطًا ثقافية قد تضعف تماسكها الداخلي ما لم يكن لديها وعي وهوية راسخة.
ثالثًا: أنماط التفاعل مع مجتمع المهجر:
الانغلاق: يؤدي إلى العزلة النفسية والاجتماعية.
الذوبان: يسبب فقدان الهوية، ويبني قيمًا مخالفة للإسلام.
التفاعل الإيجابي: النموذج الأمثل تربويًّا، حيث يحتفظ المسلم بهويته ويتفاعل بوعي وفعالية مؤثرة في مجتمع الغربة.
رابعًا: أبرز المشكلات النفسية والتربوية في المهجر
التفكك الأسري:
* نتيجة غياب المودة والرحمة، وتأثير القوانين الغربية التي قد تُضعف القيادة التربوية داخل البيت.
* علم النفس الإسلامي يربط الاستقرار الأسري بالنية الصالحة، والعدل، والمشاورة بين الزوجين.
استقواء الزوجة بالقوانين:
* يكشف عن خلل سابق في العلاقة، وقد يؤدي إلى ردات فعل متطرفة.
* المنهج الإسلامي يوازن بين الحقوق والواجبات ولا يبرر الظلم بردة ظلم.
ضياع الأبناء بين الغلو والتفريط:
* التأثر بالثقافة الرقمية وضعف الرقابة التربوية يؤدي لانحرافات فكرية وسلوكية.
* القدوة الصالحة" و"الاحتواء العاطفي" من أسس التربية النفسية الإسلامية.
انتشار السلوكيات المحظورة (مخدرات، علاقات غير شرعية):
* تنشأ غالبًا من فراغ نفسي وروحي، وغياب المحضن الأسري التربوي.
* الإسلام يربي على العفاف والصبر، ويوفر بدائل تربوية وإشباعًا عاطفيًّا حلالاً.
الموروث التربوي المتصادم مع واقع المهجر:
* الاعتماد على القهر بدلاً من الحوار يؤدي لرفض الدين.
* في علم النفس الإسلامي، التربية تقوم على توليد القناعات والنموذج، لا العنف.
الهزيمة النفسية والشعور بالدونية:
* المسلم قد يفقد ثقته بنفسه ويعيش في ازدواجية بين إيمانه وواقع مجتمعه المتخلف.
* الشفاء يكون باليقين، والتمسك بالقيم، والانخراط الإيجابي في المجتمع الجديد.
خامسًا: التحدي الحقيقي
هو كيف أعيش مسلمًا في مجتمع غير مسلم دون أن أفقد هويتي، بل كيف أؤثر فيه إيجابيًّا وأكون نموذجًا عمليًّا للمسلم؟
سبل المواجهة التربوية والنفسية الإسلامية:
* الإخلاص في النية: يضبط السلوك، ويجعل كل فعل وسلوك عبادة لله.
* العيش في بيئة مسلمة داعم: يجب الحرص على الحياة في المجتمع المسلم وتوطيد علاقات الأخوة الإسلامية من خلاله، توفر الدعم النفسي والاجتماعي والتربوي.
* الارتباط بالمسجد والمدرسة الإسلامية: لبناء الهوية وتعزيز الانتماء.
* ترشيد عمل المرأة: لضمان استقرار الأسرة ورعاية الأبناء نفسيًّا وتربويًّا.
الحفاظ على الدين واللغة العربية: كوعاء للهوية والدين، ومن المفترض أنها مسؤولية مشتركة على عاتق الوالدين، ولكن إذا كانت الأم أجنبية يقع على عاتق الأب عامل اللغة والثقافة، وتزداد الأمور تعقيدًا إن كانت الأم غير مسلمة. فمن المؤكد أنها على قناعة بما تعبد أيًّا كان، ولا تجد طبعًا حرجًا في إظهار عبادتها لأولادها ومن المؤكد أن ينعكس ذلك وكذلك ثقافتها على سلوكياتها وعادتها على فلذات أكبادها. أي اضطراب يعيشه أبناؤك بين نموذجك الإسلامي في الحياة - إن كنت كذلك – وسلوك أمهم المخالف؟
كارثة الزواج بغير المسلمة:
لقد ناقشت معضلة الزواج بأجنبية وما هي الضوابط الشرعية في ذلك؟ كما نعلم أن ما يعرف بالمسيحية الآن هو شرك صريح، فقد افتروا على الله كذبًا أن له ولدًا! سبحانه وتعالى، ويحرم على المسلم الزواج من مشركة، فأهل الكتاب المباح الزواج منهم هم من يقرون أن المسيح وموسى وكل الرسل عباد الله ورسله. وما هي المخاطر التي يتعرض لها الأولاد؟ وكيف يمكن معالجة الآثار السلبية للزواج بأجنبية؟ يمكن الرجوع إليها:
المشاركة المجتمعية الواعية: وسيلة لبناء الثقة والاندماج الإيجابي، يجب الاندماج في المجتمع المسلم بالغربة، والحرص على فعالياته خاصة التي تؤكد الهوية الإسلامية.
إنشاء محضن تربوي داخلي: يبدأ بعلاقة زوجية سليمة، وقدوة عملية صالحة. للأسف هذا ما يفتقده أولادك!
خلاصة تربوية نفسية إسلامية
الأسرة المسلمة في الغرب لن تصمد أمام التيارات المتلاطمة ما لم تتسلح بالإيمان والوعي، وتطبق التربية بالحوار والرحمة والقدوة. فكما قال النبي ﷺ: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"؛ فالتحدي هو مسؤولية تربوية ونفسية ودعوية بالأساس.
إجابة الأسئلة التي لم يتم اجابتها فيما سبق:
- "لا أنام الليل من شدّة ما ينهش قلبي":
طيب أن تشعر بذلك الألم، هذا يعني أنك أدركت حجم المخاطر التي يعيشها أولادك والتي تزداد باستمرارك في منهج الحياة الخاطئ الذي بنيته لهم، وعليه فعلك من منطلق مسؤوليتك عما جنيت به على أولادك أن تتحمل التكاليف مهما بلغت يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (التحريم: 6)؛ فهو أمر من الله عز وجل وتحذير من عدم أداء أمانة تربية الأولاد.
- "بيتي الذي بنيته بعيدًا عن أرضي، أشعر أنه يبتعد يومًا بعد يوم عن ديني وهويتي. أطفالي يكبرون في بيئة لا تُشبهني، لغتهم العربية ضعيفة، صلاتهم منسية، وأحاديثهم لا أجد فيها رائحة الإسلام. زوجتي، رغم محبتها لنا، لا تُدرك حجم الفجوة التي تكبر بيني وبين أولادي، ولا ترى مشكلة في أن يعيشوا وفق ثقافة المجتمع الذي وُلدوا فيه... أما أنا، فأشعر أنني أراهم يذوبون أمامي…":
هذا ما جنت يداك، يقو الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (فصلت: 6).
- "أنا لا أملك إلا أن أتفرج":
بل تملك قوة التغير، أخلص النية لله، استغفر وتب إلى الله واندم على ذنوبك في حق أولادك واعزم أمرك على العودة الى المنهج الإسلامي في التربية بل والحياة. إن الإسلام ليس فقط أداء نسك من صلاة وصيام وزكاة وحج بل هو منهج عملي متكامل للحياة لتفعيل الآثار الطيبة لأداء النسك.
ادرس مدى إمكانية العودة أو الحياة في أي بلد إسلامي مناسب لك، وأعد صياغة أسلوب حياتك بحيث تدعو أولادك للاسلام بكل حب وتشويق.
إن كان ذلك مستحيلا، فانتقل إلى تجمع إسلامي، واسكن بجانب مركز إسلامي وليس مجرد مسجد تؤدي فيه الصلوات وينصرف المصلون.
من خلال المشاركة في كل الأنشطة بالمسجد، رياضة رحلات الاحتفاليات بالمناسبات الإسلامية وتعرف الأولاد على صحبة طيبة وقدوة صالحة يحبون الانتماء إليها سيألفون الثقافة الإسلامية ومن ثم الصلاة والصيام والخلق والقيم الإسلامية.
إلحاقهم بمدرسة إسلامية.
احرص كل الحرص على صحبتك معهم ومشاركتهم في معظم أنشطتهم خاصة دراسة الدين والثقافة الإسلامية واللغة العربية.
الحب والثقة دعامتان نجاح أي منهج تربوي
احذر الضغط أو الأمر بل بكل حكمة ولِّد لديهم الدوافع والقناعات لمشاركتك ليس في أداء الصلاة والصيام فقط بل كل ما يعرفهم بهويتهم من خلال أفلام ثقافية/ وثائقية والمسابقات والمخيمات الشبابية الممنهجة، كذلك التعرف على أسر لديهم أولاد في عمر أولادك تقريبا.
- "هل ضيّعت أمانتي كأب؟"
نعم بكل تأكيد، لكن الله يقول: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} (مريم: 60). فأسرع واستعن بالله ولا تعجز، والله معك.
ماذا عن زوجتك؟ كيف كان دورك معها؟ لماذا لم تدعوها؟ وكيف أمنتها على عقيدة وأخلاق ذريتك وهي على شركها؟ وأنت تعلم ما هي القيم الأخلاقية الغربية في تناول الجنس "أنا مقيم بكندا وأرى كيف يعيشون".
أنا لا أطلب منك طلاقها، ولكن أطالبك بما أمرك الله بك في حق أهلك عليك. الله معك.