الإستشارة - المستشار : د. مسعود صبري
- القسم : فقهية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
109 - رقم الاستشارة : 1586
15/04/2025
السلام عليكم، أنا دارسة بيولوجيا، وأشتغل حاليًا في مجال الأبحاث الوراثية، وشغلي يوجد فيه تعامل مباشر مع الحمض النووي (DNA)، سواء تحليل الجينات، أو تعديلها، أو استخدامها في أغراض طبية وأحيانًا تجارية.
ومن كثرة تعمّقي في الموضوع، صار عندي سؤال يطاردني من الناحية الدينية والأخلاقية: هل يجوز شرعًا بيع الجينات الوراثية؟ يعني مثلًا لو شركة طبية اشترت عينات DNA من شخص، أو شخص تبرّع بها أو حتى أوقفها للأبحاث، هل هذا جائز أما أن الجسم وما فيه يعتبر أمانة، وليس من حقي أن أتصرف فيه كأنه "ملك" خاص أبيع وأوهب فيه؟
أحس بوجود خيط رفيع بين التقدم العلمي والخط الأحمر الذي من الممكن أن نتعدّاه دينيًّا بدون أن نشعر، فأنا أسأل بصدق: هل يوجد ضوابط شرعية للتصرف في المادة الوراثية أم الأفضل أن نبتعد تمامًا عن فكرة بيعها أو حتى هبتها، مهما كانت النية طبية أو علمية؟
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
أسأل الله تعالى أن ينفع بك، وأن يكون مجال عملك طريقًا إلى تثبيت الإيمان في قلبك، وزيادة يقينك بالله تعالى.
الجسد أمانة الله عند الإنسان، فلا يجوز له أن يتصرف في أمانة الله إلا بإذن صاحب الأمانة وهو الله تعالى، نعم نحن أحرار في تصرفاتنا، بمعنى أن الأصل في تصرف الإنسان الحرية، لا أن يجبر على فعل من أخيه الإنسان، لكن الإنسان محكوم بإرادة الله ومشيئته، ورغم هذا فهو حر التصرف، حتى في فعل الخطأ والحرام، لكنه محاسب عليه، ولهذا قال الله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281]، فلكل إنسان أن يفعل ما يشاء، لكنه مجاز على عمله، إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر.
تشجيع الإسلام للتطور العلمي:
والإسلام لم يقف عقبة يومًا ما أمام الاكتشافات والاختراعات العلمية التي تنفع الإنسان وتزيل عنه الضرر والدرن، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى تشجيعًا للأطباء، وفتح آفاقا مستقبلية في مجال الطب إلى يوم القيامة، وأرسى قاعدة من أهم قواعد الطب وهي: "لكل داء دواء"، تلك القاعدة التي تفتح الآفاق لكل طبيب ألا يكون هناك مستحيل في عالم الطب، وهذا ما ورد في الحديث: "إن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء، إلا الهرم"، يعني الشيخوخة.
ولكن هذا منوط بسلوك الطرق الشرعية، واحترام قوانين الله في الكون والحياة، ومن ذلك ما يتعلق بالجينات البشرية أو (الهندسة الوراثية)، ورغم كونها إحدى الأدوات التي تساعد الإنسان في مجال الطب خاصة، من تطوير العقاقير وإنتاج بعض الأدوية، أو منع بعض الأمراض، أو معالجتها، أو التخفيف عن الإنسان من خلال الجراحة الجينية، فإن العقل البشري حين يفكر خارج إطار الدين يريد أن يهدم منظومة السنن الكونية لله في الحياة، فهناك تخوف كبير من استعمال الهندسة الوراثية من استخدام تقنيات تلك الهندسة الوراثية في تحسين السلالة البشرية، أو تخليق جنيات جديدة مختلطة تجمع بين صفات الإنسان وصفات حيوانات أخرى.
فهم ماهية الهندسة الوراثية:
وتحاول الهندسة الوراثية أن تعمل على استبعاد جينات موروثة معيوبة أو غير مرغوب فيها، والاستعاضة عنها بأخرى أفضل، مما قد يكون له أثر في سلالته من بعده، ويحصل ذلك سواء بالفصل أو الوصل أو الإدخال أو الحذف لأجزاء منها أو بنقلها من كائن إلى آخر، بل محاولة العبث والتحكم بدرجة ذكاء الإنسان وسلوكياته، وهو ما يعرف اليوم بـ"ما بعد الإنسان"، وهو ما يقصد به تطوير الكائن البشري حتى يكون فائق الذكاء، مقاومًا للأمراض والشيخوخة والموت، وكلها معان منافية لثوابت الدين وقيمه، التي تجري وفق سنن الله تعالى، فالمرض سنة من سنن الله، والموت حتم لا محالة واقع على إنسان، كما قال تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴾ [الزمر: 30]، وقد أشير في الحديث إلى أن الشيخوخة لا علاج لها؛ لأنها ليست مرضًا.
وكل هذا العبث قد يؤدي إلى تشويه التركيبة الوراثية البشرية، مما قد يؤدي إلى حصول انتكاسة، لا يعرف مدى خطرها على البشرية إلا الله تعالى.
مخاطر العبث في الجينات الوراثية:
والعبث بالجينات الوراثية له مخاطر كبرى متنوعة، فهناك مخاطر صحية، منها: ظهور جينات غير مستقرة قد تسبب أمراضًا غير معروفة، وانتقال الجينات المحورة من الكائنات المعدلة وراثيًّا إلى الكائنات الطبيعية قد يؤدي إلى اضطرابات في التوازن البيئي، ومنها زيادة مقاومة البكتيريا للأدوية.
وعلى صعيد البيئة، فهناك تخوف من القضاء على أنواع طبيعية من النباتات والحيوانات وتغيير سلاسل الغذاء، وتلوث جيني لا يمكن السيطرة عليه.
والأخطر من هذا تحول الإنسان إلى سلعة من خلال بيع الجينات وتحويلها إلى سلعة قد يتم احتكارها من الشركات الكبرى المتخصصة في الموارد الوراثية، واستخدام البيانات لأغراض تجارية مما يخرق خصوصية الإنسان.
كما أن تحسين السلالة قد يؤدي إلى مشاكل اجتماعية وأخلاقية كبيرة تتعلق بالتمييز الجيني ويخلق حالة من الفوضى والخلاف الحاد بين الناس في العائلة الواحدة فضلاً عن الأسر والمجتمعات وإحداث حالة من الفوضى في الجين البشري، فضلا عن المشكلات الاقتصادية والسياسية والأمنية، وقد يترتب عليه نشوء حروب بين الدول الكبرى بسبب ذلك، فكل ذلك من الضرر المنهي عنه، كما في الحديث الذي أخرجه أبو داود: "لا ضرر ولا ضرار".
خطر العولمة المعاصرة:
وكما أشرت أنت أن هناك حدًّا فاصلاً بين التطور العلمي والحفاظ على منظومة الأخلاق في المجتمعات البشرية، وكل هذا هو نتاج العولمة الجديدة التي تريد أن تتجاوز الإله في كل تصرفاتها، ضاربة بالدين عرض الحائط، محاولة أن تجر الناس بعيدًا عن الدين؛ حتى تحكم سيطرتها، لتكون هناك حكومة واحدة، ومصرف واحد، ومنظومة أمنية واحدة، تتحكم فيها العائلة التي تحكم العالم، وهي التي تبشر بخروج المسيخ الدجال، وتعمل ليل نهار على إخراجه.
ويظهر هذا الأمر في السياسة والصحة والتعليم والسياحة وفي كل مجالات الحياة اليوم، ولكنها ستبوء بالفشل بإذن الله، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال: 36]، وهو القائل ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 33].
فلا تكن جزءًا من تلك المظلومة الظالمة الغاشمة التي تريد تدمير العالم، ولو تسمت باسم التطور والتقدم، فنحن مع التقدم والتطور وفق منظومة الدين والأخلاق، لا خارج ذلك الإطار الرباني، وعلى المرء أن يختار لنفسه إما أن يكون من حزب الشيطان، ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون، أو يكون من حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون.
الخلاصة:
وعلى هذا، فبيع الجينات أو حتى التبرع بها ووقفها لا يجوز، لما في ذلك من أضرار كبيرة، ويمكن الاستعاضة عنها اليوم بما يقوم به العلماء من تجارب على غير الإنسان.