أمشي في طريق غامض ولا أرى نهايته.. كيف المخرج؟!

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : د. أميمة السيد
  • القسم : الشباب
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 21
  • رقم الاستشارة : 3428
05/12/2025

أكتب إليكم وأنا أشعر بأن حياتي في هذه المرحلة تشبه طريقًا متعرجًا، تتداخل فيه التفاصيل كما تتداخل خطوط الخريطة. هناك أسئلة كثيرة لا أجد لها إجابة، وتجارب تتراكم، ومشاعر تتداخل بشكل يجعل المشهد العام يبدو غير واضح.

أمضي في طريقي، لكنني أشعر أحيانًا بأن الفوضى أعلى صوتًا من قدرتي على تفسيرها. أرى الطريق يمتد أمامي، لكني لا أرى نهايته، ومع ذلك أواصل السير.

أدرك أن الوضوح ليس شرطًا للبداية، لكنني في الوقت نفسه أشعر بالحيرة تجاه الخطوة التالية: هل أبطئ؟ هل أغير الاتجاه؟ أم أستمر رغم الالتباس؟

الضوء البعيد الذي أراه ليس وعدًا بسعادة كاملة، لكنه يلمّح إلى أن العتمة ليست نهاية، وأن هناك دائمًا فرصة لخطوة جديدة قد تغيّر المشهد كله. ورغم إدراكي لهذه الفكرة، إلا أنني أواجه صعوبة في ترجمتها إلى قرار واقعي.

سؤالي لكم هو: كيف يمكن للإنسان أن يتعامل مع الفوضى الداخلية والخارجية عندما تصبح أعلى من قدرته على الفهم؟ وكيف يختار الخطوة الأولى في وقت يغيب فيه الوضوح، ومع تضارب المشاعر والخيارات؟ وما هي الطرق العملية التي تساعد على السير بثبات، حتى في ظل عدم اليقين؟

أتطلع لتوجيهكم، ولكل ما يمكن أن يعين على تحويل هذا الالتباس إلى طاقة تدفعني إلى الأمام بثقة أكبر. وتفضلوا بقبول خالص التقدير.

الإجابة 05/12/2025

أحييك يا صاحب هذا القلب الواعي الذي استطاع أن يصف تعقيد مشاعره بهذه الدقة والشفافية.

 

وأريد أن أقول لك أولًا: إن قدرتك على التعبير بهذا العمق ليست ضعفًا، بل علامة واضحة على النضج النفسي، وامتلاك درجة عالية من الوعي الذاتي، وهي خطوة متقدمة في طريق تجاوز أي فوضى داخلية. ولذلك دعنا نفكّك ما تشعر به بهدوء ورفق:

 

أولًا: الفوضى ليست عدوك، بل هي رسالة

 

ما تسميه فوضى يسميه علم النفس مرحلة إعادة التشكيل والتنظيم الداخلي Internal Reorganization، وهي المرحلة التي يمر بها الإنسان عندما تتغيّر حياته، أو أولوياته، أو رؤيته لنفسه وللعالم. هذه المرحلة قد تبدو غامضة، لكنها في الحقيقة علامة تحوّل، لا علامة ضياع.

 

قال الله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾، ولم يقل: "بعد" العسر، بل "معه". أي أن في قلب الفوضى نواة تتشكل لمرحلة جديدة من الأمل.

 

ثانيًا: لماذا لا ترى الطريق واضحًا رغم أنك تسير؟

 

لأنك –ببساطة- في مرحلة يسميها علم النفس: ضباب الطريق Path Fog وهي حالة يفقد فيها العقل القدرة على رؤية "الصورة الكبرى"، لكنه يحتفظ بالقدرة على اتخاذ خطوة صغيرة. الإنسان لا يحتاج أن يرى النهاية، يكفي أن يرى موضع قدمه القادم.

 

ثالثًا: كيف تتعامل مع الفوضى عندما تعلو فوق قدرتك على الفهم؟

 

* التسمية والتحديد ووضع العلامات: عندما نسمي المشاعر، يقلّ الضغط العصبي بنسبة ملحوظة. أريدك أن تكتب ما تشعر به دون حُكم: قلق، غموض، إرهاق، تطلع، رغبة في التغيير. التسمية تُخفف التشويش الذهني.

 

* التجزئة: قسّم الفوضى إلى ملفات صغيرة.. فقد يعجز العقل عن فهم "المشهد العام"، لكنه قادر على التعامل مع أجزاء واضحة.

 

* تنظيم الفوضى الخارجية: أبحاث كثيرة تؤكد أن ترتيب المكان ينعكس مباشرة على ترتيب الفكر. هي خطوة بسيطة، لكن أثرها كبير.

 

* التنظيم الداخلي عبر الروتين: ليس مطلوبًا نظام كامل، بل "نقاط ارتكاز":

 

- وقت ثابت للنوم.

 

- وقت للمشي.

 

- وقت للهدوء.

 

- وقت للخلوة مع الله.

 

هذه النقاط تمنح العقل معنى لإشارات الاستقرار Stability Signals.

 

* لا بد من إيقاف المقارنة.. أصعب ما يزيد الفوضى هو مقارنة طريقك بطرق الآخرين. كل إنسان له خريطته، وظلاله، وضياؤه.. فالقناعة والرضا هما الأساس.

 

رابعًا: كيف تختار الخطوة الأولى في غياب الوضوح؟

 

* قانون الخطوة الأصغر The Smallest Possible Step ..فحين يغيب الوضوح الكبير، ابحث عن وضوح صغير.

 

خطوة بسيطة، مثل:

 

- ترتيب مكتبك

 

- إنهاء مهمة واحدة

 

- اتخاذ قرار جزئي

 

- البدء في مشروع بلا شروط للكمال.

 

النفس تُشفى بالخطوات الصغيرة، لا بالقرارات الضخمة.

 

* قانون الاختيار الهادئ Quiet Decision Rule ..اترك القرار "يستقر" يومًا أو يومين بلا ضغط. العقل يهدأ، والاختيار يصبح أوضح.

 

* ادعم قيمك واثبت.. اختر الخطوة التي تنسجم مع قيمك، حتى لو كانت صغيرة. هذا يُسمّى في العلاج النفسي Valued Action، وهو من أقوى الطرق للخروج من المتاهة الداخلية.

 

خامسًا: كيف تستمر رغم عدم اليقين؟

 

1- قبول الغموض.. الغموض جزء أصيل من رحلة أي إنسان... قال تعالى: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا﴾؛ فالغيب جزء من حكمة الله، لا من عجز الإنسان.

 

2- بناء وإرساء "أعمدة الثبات"...

 

- علاقة صحية.

 

- عبادة ثابتة.

 

- مهارة تتطور.

 

- هدف بعيد بدون ضغط.

 

هذه الأعمدة تبقى ثابتة مهما تغيّر الطريق.

 

3- ملاطفة الذات والتعاطف معها Self-Compassion ..لا تقسو على نفسك.. أنت لا تعيش حياة سهلة، ولا تسير في طريق مستقيم، ومع ذلك لم تتوقف. وهذا وحده إنجاز.

 

* همسة أخيرة:

 

ثق يا عزيزي بأن ما تمرّ به ليس ضعفًا، بل مرحلة انتقالية يحتاجها كل إنسان قبل نضج جديد. وضباب الطريق لا يعني أنك تائه، بل أنك في بداية مستوى أعمق من الوعي.

 

ثق بأن الله لا يضعك في طريق إلا وفي نهايته خير. وثق أن الخطوة الأولى -مهما كانت صغيرة- هي التي تصنع الاتجاه، لا الوضوح الكامل.

 

روابط ذات صلة:

تائه في صحراء الفكر

أعيش بلا هوية.. ثق بنفسك

الرابط المختصر :