الإستشارة - المستشار : د رمضان فوزي
- القسم : إيمانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
17 - رقم الاستشارة : 1050
19/02/2025
مشكلتي في ضعف إرادتي، وعدم وضوح أهدافي، وميوعة مواقفي فيما يخص حياتي، صدقوني لا أستطيع اتخاذ قرارات مهمة في حياتي، دائما متردد. الأصعب أن الأمر ليس بهذا الوضوح الذي أتحدث به؛ فأنا مثلا كثيرا ما أستطيع نصح من حولي، والأكثر من ذلك أنهم يعجبون بآرائي، ويجدون أنها الأنسب ويأخذون بها. وليّ اهتمامات كثيرة مثل الثقافة العامة والدينية والسياسية والرياضية. ولكنى مشتت كما أخبرني ذات يوم زميل لي بلغ الستين من عمره. هذه هي مشكلتي: في البداية أكون نشيطا وأغير من نفسي، ثم يكون التراخي تدريجيا، وأعود لما كنت فيه. أول مرة أتحدث مع أحد بهذا القدر من الصراحة، واعذروا لي كثرة المواضيع التي ذكرتها؛ فأنا إنسان لا هوية له، ذو نفس ضائعة، ولكني أشعر بأني سأجد الحل عندكم؛ فلا تحرموني من ردودكم، أرجو أن تتسع صدوركم لتساؤلاتي الكثيرة. أرجوكم خذوا بيدي، أنقذوني...
أهلا بك أخي، ونسأل الله أن يجعلنا أهلا لثقتك فينا.
أخي الحبيب،
إن تغيير النفس والانتقال من حياة العصيان والذنوب إلى حياة الطاعة تمر بعدة مراحل؛ أولاها أن يشعر الإنسان بأنه على خطر وأنه يحتاج إلى تغيير حياته تلك، ثم تأتي المرحلة التالية وهي تشخيص المرض ومعرفة مكمن الداء، ثم تأتي مرحلة ثالثة وفيها يتعرف المريض على وسائل العلاج وطرق العودة والتوبة، والمرحلة التالية مرحلة تنفيذية يقوم فيها المريض بتطبيق ما تعرف عليه من وسائل علاجية، وهذه المرحلة من أصعب المراحل وأطولها؛ ذلك أنها تحتاج إلى مجاهدة شديدة للنفس والشيطان والهوى، وأحيانا يكون فيها فترات تتذبذب فيها النفس بين الطاعة والمعصية، ولكن مع عزيمة صاحبها ومثابرته يستطيع التغلب على نفسه؛ حتى يسلس لها قيادها، وتستلذ بالطاعة وتأنس بها كما كانت تستلذ بالمعصية.
وأظن أن مشكلتك أخي في هذه المرحلة؛ فأنت - بحمد الله- تعرفت على دائك، بالإضافة لما تتمتع به أنت من ملاحظات يفيد منها الآخرون، ويتبقى الآن الدور التنفيذي المطلوب منك أنت؛ فالطبيب يقتصر دوره على وصف العلاج، والمريض الحريص على الشفاء يسارع من نفسه بأخذ العلاج، هذا إذا كان الأمر يتعلق بمرض عضوي؛ فما بالك إذا كان الأمر يتعلق بمصير الإنسان الدنيوي والأخروي؟!
لا بد أن تتيقن أن الأمر جد خطير؛ فهو إما جنة وإما نار، إما سعادة أبدية وإما شقاء أبدي، الأمر أخطر من أن تتهاون فيه أو تؤجل؛ فأنت لا تدري متى سينقضي أجلك، إن الموت أقرب من أحدنا من شراك نعله، وإذا بلغت الروح الحلقوم فحينها لا ينفع نفسا إيمانها؛ فباب التوبة مفتوح حتى تبلغ الروح الحلقوم، فسارع وادخل في هذا الباب، وليكن شعارك في هذه المرحلة {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى}.
أخي الحبيب،
أعلم أن للنفس صفات خبيثة، وأخلاقا مذمومة، وأن تغييرها واجب لا بد منه، حتى ينجو الإنسان، ولكن هذه الصفات الناقصة لا تزول بالأماني ولا بمجرد الاطلاع على حكم تزكيتها، أو قراءة كتب في الأخلاق والتزكية؛ بل لا بد لها- إضافة إلى ذلك- من مجاهدة وتزكية عملية، وكبح نزواتها العارمة وشهواتها الجامحة، وصدق الشاعر حين قال:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على *** حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
وثق أن النفس الإنسانية قابلة للتغيير، وتبديل الصفات المذمومة؛ فالكثير من البهائم والطيور أمكن ترويضها واستئناسها؛ فالإنسان الذي كرمه الله بالعقل أولى بهذا، وإلا لما كانت هناك فائدة من إرسال الرسل، ولما كانت هناك ضرورة للدعاة والمصلحين في كل العصور.
والله عز وجل قد تكفل بهداية من جاهد نفسه، فقال عز من قائل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}، والمقصود بالجهاد هنا هو جهاد النفس كما قال بعض العلماء؛ فهذه الآية من سورة العنكبوت، وهي سورة مكية نزلت قبل الأمر بقتال الأعداء ومجاهدتهم.
فأنصحك أن تجلس مع نفسك جلسة مكاشفة ومصارحة تفتح فيها صفحة جديدة بيضاء، تقوم فيها بسرد السيئات والمنكرات التي تأتيها، وتبدأ تدريجيا بالتخلي عنها حسب خطورتها؛ فابدأ بالكبائر واعزم عزما صادقا أن تتوب عنها ولن تعود لمثلها أبدا مهما كانت الظروف، ثم انظر في الأقل منها خطورة وهكذا حتى تتخلص من كل الذنوب والمنكرات التي تعوق حركتك وتسد عليك طريق العودة لله رب العالمين.
ومع كل سيئة تتركها حدد طاعة أو عملا صالحا كنت لا تفعله فابدأ بفعله؛ فنفسك إن لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية. ويمكنك أن تستعين بجدول أو ورد محاسبة لتقييم حالتك ومحاسبة نفسك.
لقد كنت صريحا وواضحا معنا، ومع نفسك، وأنت تحدد مشاكلك، وأراك قد حددتها في قولك: "ضعف إرادتي، وعدم وضوح أهدافي، وميوعة مواقفي فيما يخص حياتي، صدقوني لا أستطيع اتخاذ قرارات مهمة في حياتي، دائما متردد".
ودعنا نبلورها لك في نقاط محددة مع إعادة ترتيبها قليلا لتكون كالتالي:
- عدم وضوح الأهداف.
- ضعف الإرادة.
- ميوعة المواقف.
- التردد وعدم القدرة على اتخاذ القرارات المهمة.
فعدم وضوح الهدف والغاية ينتج عنه ضعف الإرادة وقلة التحمس للأمر، وهذا بدوره يؤدي إلى الميوعة والاضطراب في المواقف، وهو ما ينتج عنه التردد في اتخاذ القرارات الحاسمة في الحياة، إذن فمرد الأمر كله إلى عدم وضوح الهدف والغاية.
وأظن أخي أن ما تعاني منه هو داء وبيل منتشر في كثير من شباب الإسلام اليوم؛ فكثير منهم يعيشون بلا هدف ولا غاية ولا هوية، ويتركون مصيرهم لتقلبات الدهر وصروف الحياة، تقلبهم ذات اليمين وذات الشمال، وهم مكتوفو الأيدي والأذرع؛ حتى تغنى أحدهم قائلا: "جئت لا أعلم من أين، ولكني أتيت.. ولقد أبصرتُ قُدّامي طريقا فمشيت.. وسأبقى سائرا فيه شئت هذا أم أبيت.. كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟.. لست أدري".
أخي الكريم،
إني أتعجب لشاب مثلك في الثلاثين من العمر، ويحمل رسالة الماجستير، ومنّ الله عليه بالسفر والإقامة في بلد الحبيب- صلى الله عليه وسلم- ومهبط الوحي.. كيف يسير في هذه الحياة غير واضح الهدف والغاية؟! هل ترك نفسه للأقدار حتى وضعته في مصب حياته التي يحياها الآن؛ حتى أصيب بالسلبية في كثير من أموره؛ فهو يبحث عن الصحبة الصالحة في الرفيق الذي فرض عليه بحكم السكن فقط، ويبحث عن الزوجة في الفتاة التي عرّفه عليها بعض الأهل؛ فيوافق عليها رغم أن بها بعض العيوب التي تجعله غير مقتنع بها؟!
إن أخشى ما أخشاه أن يكون إحساسك بالسلبية هذا هو الذي جعلك تهرب لتثبت شخصيتك وذاتك في أمر آخر؛ وهو شرب الخمر والزنا والعياذ بالله؛ فهذه الأمور سهلة لمن طلبها، ييسرها شياطين الإنس والجن الذين كثر عددهم وضل سعيهم. إن رباعية المشاكل التي حددتها أظن أنها وراء التخبط والعبث الذي تعيشه في حياتك؛ فابدأ من الآن، وسارع في التغيير.
وقد وضح الله- عز وجل- الهدف من وجودنا على هذه الأرض، فحدده في هدفين اثنين هما: عبادة الله عز وجل، وخلافته في الأرض؛ فقال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}، وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}، إذن فلتكن غايتك العظمى التي تعيش لها وتعمل من أجلها هي رضوان الله عز وجل والدخول في رحمته والفوز بجنته، وتحت هذه الغاية تأتي أهداف عديدة تستوعب كل مناحي الحياة؛ فلتكن دراستك وزواجك وعملك وسفرك وكل حركة وسكنة في حياتك موجهة حسب منهج الله تعالى وما أراده منا، فجعل لكل عمل نية خالصة تتقرب بها لله تعالى {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
أما ضعف الإرادة فهو غالبا راجع إلى تسلط الهوى على صاحبه؛ بحيث يصبح الفرد مسلوب الإرادة تحركه شهواته وهواه، وقد ذم القرآن ذلك فقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللهِ}، وقال عز وجل: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ}.
وينتج عن ضعف الإرادة هذا ميوعة المواقف والتردد في اتخاذ القرارات؛ فهذا الشخص يكون في صراع دائم ومستمر بين فطرته التي تدعوه لإتباع هدي الله، ونزوات نفسه التي تدعوه لإتباع طريق الشيطان، أما المسلم الرباني فيكون منطلقه ووجهته دائما وجهة واحدة؛ لله رب العالمين ورسوله الكريم.
ويريد الإسلام من المسلم أن يكون إيجابيا لا سلبيا، مؤثرا لا متأثرا، فاعلا لا مفعولا به. وقد ربى أتباعه على أن يحلل أحدهم العمل الذي ينوي القيام به، ويوازن بين إيجابياته وسلبياته، وبناء على ذلك يتخذ القرار الذي ترجح فيه الإيجابيات.
والرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم- علم أصحابه صلاة الاستخارة ليقوم بها المسلم قبل أن يأخذ أي قرار في حياته، صغر أم كبر؛ ذلك أن إدراك الإنسان واختياره لا يخلو من قصور ونقص؛ فعليه أن يفوض الأمر ويرجعه لله رب العالمين الذي يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، ويدعوه أن ييسر له الخير حيث كان ثم يرضيه به.
أخي الحبيب،
لا يفوتني أن أحذرك من كثرة جلد الذات؛ فالكيِّس من دان نفسه، ولكن إدانة النفس هذه لابد أن تكون متبوعة بعمل صالح كما أخبر المصطفى -صلى الله عليه وسلم- "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت"، والوجه الآخر المذموم: "والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله".
أنصحك مرة أخرى بأن تنطلق من الجانب المشرق في نفسك وأن تكون واثقا من تأييد الله لك، ونصره لك على نفسك، خاصة أنك جربت هذا وتذوقت حلاوته، ومن ذاق عرف، وأنت الذي تقول: "فلقد تذوقت نجاحاتي كلها، دينية ودنيوية، عندما كان لي هدف حتى ولو كان مؤقتا". فحافظ على نجاحاتك، وحول المؤقت منها إلى دائم، والصغير إلى كبير، واستعن بالله ولا تعجز.
ولا تنس أخي أن المنبتَّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى؛ فاحذر أن تبدأ من القمة فيكون النزول للسفح سهلا، ولكن ابدأ من السفح واصعد للقمة؛ فبعض الملتزمين الجدد تأخذهم الحمية للالتزام، ثم يلقون بأنفسهم ليغبوا منه غبًّا لا يتناسب مع استعدادهم النفسي؛ فسرعان ما تمل أنفسهم ويهربون من حيث أتوا؛ فأوغل فيه برفق.
وفي النهاية أخي الكريم أسأل الله أن يرزقنا وإياك التوبة الصادقة التي يجبُّ الله بها ما كان منا، وأن يردنا إلى دينه ردا جميلا.. آمين وتابعنا بأخبارك.