الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : إيمانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
129 - رقم الاستشارة : 863
02/02/2025
أشعر أن إيماني ضعيف ومتذبذب، وأخشى أن أكون ممن يعبدون الله على حرف، وهذا الإحساس يقلقني كثيرًا. كيف يمكنني التغلب عليه؟ وكيف أواجه ضغوط الحياة في ظل ضعفي الداخلي، خاصة عندما أرى أن العصاة يعيشون حياة أكثر راحة واستقرارًا من الملتزمين؟ كنت أشعر بيقين وإيمان أقوى عندما كنت أصغر سنًا، ولكن مع تقدمي في العمر، أجد أن يقيني يتراجع وتقصيري يزداد، وهذا الأمر يخيفني كثيرًا، فأنا قلقة من أن أموت على هذه الحال. كيف أستعيد يقيني وإيماني؟
أختي الكريمة، أسأل الله أن يشرح صدرك بالإيمان، وأن يرزقك الطمأنينة واليقين، وأن يجعلك من عباده الصالحين الثابتين على الحق، وبعد...
فما تشعرين به ليس غريبًا، فكثير من الناس يمرون بحالات من الفتور أو الضعف الإيماني؛ خصوصًا مع ضغوط الحياة ومغرياتها. لكن الأهم هو ألا نستسلم لهذا الشعور، بل نجعله دافعًا للبحث عن القرب من الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم» [رواه الحاكم].
وبالتأكيد كان يقينكِ أقوى في الصغر؛ لأن الطفولة هي مرحلة الفطرة النقية، والإيمان يكون صافيًا فيها، لكن مع الكبَر تأتي الفتن والانشغالات، فيضعف القلب. والحل هو العودة إلى الله مجددًا، بنية أقوى، وبرغبة أصدق.
والصحابة -رضي الله عنهم- أنفسهم اشتكوا من مثل ذلك، فقد جاء حنظلة رضي الله عنه إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «يا رسول الله، نافق حنظلة!»، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وما ذاك؟» قال: يا رسول الله، نكون عندك تذكرنا بالجنة والنار كأنها رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، نسينا كثيرًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة في طرقكم، ولكن يا حنظلة، ساعة وساعة» [رواه مسلم]. إذن، التفاوت في الإيمان عبر الأوقات أمر طبيعي، والمهم أن نجتهد في تجديده والعمل على تقويته.
إن «عبادة الله على حرف» التي أشرت إلى شعورك بها، وقلقك منها، وردت في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعۡبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرۡفࣲ فَإِنۡ أَصَابَهُۥ خَیۡرٌ ٱطۡمَأَنَّ بِهِۦ وَإِنۡ أَصَابَتۡهُ فِتۡنَةٌ ٱنقَلَبَ عَلَىٰ وَجۡهِهِۦ خَسِرَ ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ ٱلۡخُسۡرَانُ ٱلۡمُبِینُ﴾ [الحج: 11]، ومعنى العبادة على حرف، أن الإنسان يعبد الله دون رسوخ وثبات، فإن جاءت الأمور وفق هواه، وأعطاه الله ما يتمنى من خير ومتع وراحة في الدنيا، استمر في العبادة، أما إن أصابه بلاء أو لم يرَ النتائج التي يتوقعها، فإنه يضعف وقد يترك العبادة.
وخوفك وقلقك -أختي الكريمة- من أن تكوني ممن يعبدون الله على حرف، دليل على أنكِ لستِ كذلك؛ لأن من يعبد الله بهذه الطريقة يكون غير مكترث أو غير مبالٍ بدينه، بينما أنتِ تشعرين بالقلق وتسعين للثبات، وهذا بحد ذاته علامة خير ودليل على صدق إيمانكِ.
إن العبادة الحقيقية هي عبادة الله في السراء والضراء، في القوة والضعف، في الفرح والحزن، وهذا ما كان عليه الأنبياء والصالحون. انظري إلى أيوب -عليه السلام- الذي ابتُلي بالمرض والفقر، لكنه لم يفقد يقينه بالله، بل قال: ﴿رَبِّ إِنِّي مَسَّنِيَ ٱلضُّرُّ وَأَنتَ أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ﴾ [الأنبياء: 83].
لذلك، فالحل هو الاستمرار في العبادة حتى في لحظات الفتور، وعدم الاستسلام لهذه الوساوس، بل مواجهتها بالصبر، والاستعانة بالله، واليقين بأن التقلبات في الإيمان أمر طبيعي، والمهم هو الثبات والسعي المستمر للعودة إلى الله.
أما عن إشارتك إلى أن العصاة يبدون أكثر راحة، فاعلمي –أختي الكريمة- أنه كثيرًا ما يخدعنا بريق الدنيا، فنظن أن أصحاب المعاصي يعيشون حياة هانئة بلا هموم، بينما يعاني أهل الطاعة من الابتلاءات والضغوط. ولكن الحقيقة التي أخبرنا الله بها في كتابه أن السعادة الحقيقية ليست في المال، ولا في الجاه، ولا في المتع الدنيوية، وإنما في راحة القلب وطمأنينة النفس. قال الله تعالى: ﴿مَن عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: 97].
أما العصاة، فقد أخبرنا الله بحقيقتهم فقال: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ﴾ [طه: 124]، أي أن من أعرض عن الله، ولو كان يملك الدنيا، فإنه يعيش في ضيق نفسي وهمّ مستمر، ولو بدا عليه أنه مستمتع بملذات الدنيا.
وقال سبحانه: ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [التوبة: 55]، فالمال قد يكون فتنة، والترف قد يكون استدراجًا، وليس نعمة حقيقية.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته» ثم قرأ: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود: 102)، (والحديث متفق عليه). أي أن الله قد يمدّ للظالم في دنياه، لكنه في النهاية سينال جزاءه، إما في الدنيا وإما في الآخرة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب ([رواه أحمد].
نعم، قد يبدو العاصي سعيدًا، لكنه يحمل داخله قلقًا واضطرابًا لا يظهر للناس. فالمؤمن يجد راحته في طاعته لله، بينما العاصي يبحث عن الراحة في الدنيا فلا يجدها، فيغرق في الملذات بحثًا عن سعادة زائلة.
وقد نجد العاصي يضحك ويمرح، لكنه حين يخلو بنفسه يشعر بالضيق والاكتئاب، ويظل يسعى وراء المتع الدنيوية ليغطي على هذا الفراغ، لكنه لا يمتلئ أبدًا، لأن القلب لا يرتاح إلا بالله: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]. فهم –أي العصاة- حتى لو كانوا في نعيم ظاهري، فإنهم يعيشون في خوف من المستقبل، وعدم رضا عن النفس، وقلق مستمر، لأنهم فقدوا الصلة بالله.
الخلاصة في هذه النقطة –أختي الكريمة- أن من وجد الله وجد كل شيء، ومن فقد الله فقد كل شيء.
ولكي تتغلبي على هذه الأحاسيس، أنصحك بالآتي:
1- الإكثار من الدعاء:
الجئي إلى الله بقلب منكسر، وادعيه أن يرزقك اليقين والثبات، ومن الأدعية في هذا الجانب: اللهم يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك، اللهم اجعل الإيمان بك وطاعتك والقرب منك أحب إليَّ من نفسي وأهلي ومالي.
2- المداومة على الذكر والاستغفار:
فذكر الله من أعظم ما يحيي القلوب ويطمئنها، كما ذكرنا من قوله تعالى: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28].
3- ملازمة القرآن:
فهو النور الذي يهدي القلوب، والشفاء لما في الصدور، وعلاج ما في النفوس، وتأملي قوله تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الإسراء: 82].
4- صحبة الصالحين:
فالإنسان يتأثر بمن حوله؛ لذا احرصي على الصحبة الصالحة التي تعينك على طاعة الله.
5- مواجهة ضغوط الحياة:
الحياة ليست سهلة، وكل إنسان يمر بظروف صعبة، لكن المؤمن يعلم أن هذه الدنيا دار ابتلاء، قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 155].
لذا عليك أن تواجهي هذه الضغوط وتتغلبي عليها، بوسائل عدة، منها:
- الرضا والتسليم لقضاء الله، واليقين بأنه –سبحانه وتعالى- يختار لك الأفضل، وأن كل ضيق تمرين به فيه حكمة عظيمة.
- الاستعانة بالصبر والصلاة، كما قال تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ [البقرة: 45].
- التوازن في الحياة: فلا تجعلي العبادة بمعناها الضيق فقط هي المحور الوحيد لحياتك؛ فكل عمل صالح هو عبادة تتقربين بها إلى الله.
ولاستعادة قوة اليقين وحلاوة الإيمان، أنصحك بالآتي:
1- استرجاع لحظات اليقين السابقة: فتذكري كيف كنتِ أكثر قربًا من الله في صغركِ، وما الذي تغير؟ وحاولي العودة تدريجيًّا لما كنتِ عليه.
2- التدرج وعدم المثالية الزائدة: فلا تشعري بالإحباط بسبب التقصير، فالمهم هو أن تسعي للعودة إلى الله، حتى لو بخطوات صغيرة.
3- التفكر في نعم الله: فمن أكبر ما يزيد اليقين هو التأمل في آيات الله في الكون، وفي النعم كلها التي في نفسك والتي تحيط بكِ.
4- الاستعاذة بالله من الوساوس: فلا تجعلي الشيطان يثبطكِ بإحساس التقصير، بل اجعليه يخسأ بزيادة الاجتهاد، وكوني ممن قال فيهم الله: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69].
وختامًا -أختي العزيزة- أسأل الله أن يثبت قلبكِ، ويملأه يقينًا وسكينة، ويرزقكِ لذة الإيمان وطمأنينة القرب منه، ويرزقكِ حسن الخاتمة على طاعته. وتابعينا بأخبارك.