الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : إيمانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
380 - رقم الاستشارة : 846
31/01/2025
السلام عليكم، لقد شُغِل قلبي بسؤال يؤرقني، وأخشى أن يكون سببًا في ضعف إيماني أو إيمان غيري، فأرجو منكم أن تجيبوني بما يطمئن القلوب ويقوي اليقين. أعلم أن الله عز وجل ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم، وجعل القرآن الكريم هدايةً أبدية للبشرية، ومع ذلك، أجد نفسي أتساءل: كيف تستمر هذه الرسالة ثابتةً رغم مرور أكثر من 1400 سنة على نزولها؟ وقد تتوالى القرون بعد ذلك، في ظل تطورات فكرية وعلمية هائلة، وتغيرات جذرية في المجتمعات وأساليب الحياة. لماذا اقتضت حكمته سبحانه ختم النبوة، وعدم تجديد الوحي رغم تغير أحوال البشر؟ كيف يكون الإسلام صالحًا لكل زمان ومكان دون نبي جديد يبين لهم المستجدات بوحي من الله؟ إني أخشى أن يكون هذا التساؤل منفذًا للشك في بعض القلوب، وأريد أن أزداد يقينًا بأن الإسلام، بكتاب الله وسنة نبيه، هو النور الذي لا ينطفئ، والهداية التي لا تتبدل مهما تبدلت الأزمان. فكيف نستوعب هذه الحقيقة بعمق يملأ القلوب طمأنينة؟ جزاكم الله عني وعن كل من يبحث عن اليقين خير الجزاء.
الحمد لله الذي أتم لنا الدين، وأكمل علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام دينًا، وجعلنا من أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، خاتم النبيين، ورحمة الله للعالمين. نحمده سبحانه ونشكره أن هدانا للإيمان، ونصلي ونسلم على النبي المصطفى الذي تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
أخي الحبيب، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ومرحبًا بك، وبعد...
فإن تساؤلك نابع من قلبٍ يتطلع إلى الفهم العميق لحكمة الله، ويرجو اليقين الذي يملأ القلب طمأنينة. ولأن مثل هذه الأسئلة قد تكون بابًا للشك عند البعض، فإننا سنقف معًا وقفات عدة، لننظر كيف أن الله -سبحانه وتعالى- قد جعل الإسلام دينًا خالدًا، صالحًا لكل زمان ومكان، مكتملًا بذاته، لا يحتاج إلى نبي جديد، ولا إلى وحي متجدد.
أولًا: لماذا ختم الله النبوة؟
إن ختم النبوة ليس أمرًا عارضًا، بل هو جزء من الحكمة الإلهية العظيمة، حيث أكمل الله الدين وجعل الإسلام الرسالة الأخيرة للبشرية، كما قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (المائدة: 3).
فلو كان هناك حاجة لنبي بعد -محمد صلى الله عليه وسلم- لما صحّ أن يُقال إن الدين قد اكتمل. ولكن الله -عز وجل- بعلمه وحكمته أنزل رسالةً شاملةً جامعةً، قادرةً على مواكبة كل زمان، فلا حاجة بعدها إلى تجديد النبوة؛ لأن الحق قد استقر، والمنهج قد وُضع، والطريق قد أُضيء.
وقد أخبرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- بنفسه أن لا نبي بعده، فقال: «إنَّ الرِّسالةَ والنُّبوَّةَ قد انقطعت فلا رسولَ بعدي ولا نبيَّ» فشقَّ ذلِكَ على النَّاسِ فقالَ: «لَكنِ المبشِّراتُ»، فقالوا: يا رسولَ اللَّهِ، وما المبشِّراتُ؟ قالَ: «رؤيا المسلمِ، وَهيَ جزءٌ من أجزاءِ النُّبوَّةِ» (رواه الترمذي).
ثانيًا: كيف يكون الإسلام صالحًا لكل زمان ومكان دون نبي جديد؟
هذا السؤال يتفرع إلى عدة نقاط، أجيبك عنها واحدةً تلو الأخرى:
1- القرآن الكريم كتاب خالد يحمل الهداية لكل العصور:
فالقرآن ليس مجرد نص تاريخي؛ بل هو كلام الله الحي الذي يخاطب البشر في كل زمان، ويملك القدرة العجيبة على الاستجابة لكل تطورات الحياة. قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (النحل: 89).
فهو كتابٌ يحوي المبادئ الكلية والقيم العظمى التي ترشد البشرية مهما تقدمت في علومها ومعارفها. فكما أنه كان هدايةً للعرب الأميين، فهو اليوم هدايةٌ للعالم المتحضر، ولن تنقضي عجائبه، ولن يَخْلق من كثرة الترداد، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
2- السنة النبوية شاملة ومكملة للقرآن:
لم يتركنا النبي -صلى الله عليه وسلم- دون توجيهٍ بعد رحيله، بل ترك لنا كنزًا عظيمًا من سنته، التي فصَّلت القرآن وبيَّنته، وجعلت في أيدينا منهجًا عمليًّا نحتكم إليه. قال صلى الله عليه وسلم: «تركتُ فيكم أَمْرَيْنِ لن تَضِلُّوا ما تَمَسَّكْتُمْ بهما: كتابَ اللهِ وسُنَّةَ نبيِّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ» (رواه مالك).
فالسنة تفصيل للقرآن، وهي تفسيره العملي، وتعاليمها تتسم بالمرونة التي تجعلها صالحةً لكل زمان ومكان.
3- الاجتهاد والتجديد في ضوء الإسلام:
الإسلام لم يغلق باب الفهم والتجديد؛ لكنه وضع له ضوابط تحميه من الانحراف. ولذلك نجد أن الله شرع لنا الاجتهاد، وجعل في الأمة علماءً يفسرون النصوص وفقًا لمقتضيات العصر، دون الحاجة إلى وحي جديد.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ يبعثُ لِهَذِهِ الأمَّةِ على رأسِ كلِّ مائةِ سنةٍ من يجدِّدُ لَها دينَها» (رواه أبو داود)، وهذا يعني أن الإسلام يتجدد بفهم علمائه وفق أصوله، وليس بوحي جديد أو نبي آخر.
ثالثًا: لماذا أرسل الله أنبياء متتابعين ثم ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم؟
كان إرسال الأنبياء متتابعًا في الأزمنة السابقة؛ لأن الرسالات كانت مؤقتةً، خاصة بأقوامٍ محددين. فكل نبي كان يأتي ليكمل ما قبله، أو ليصلح ما انحرف عنه الناس من شريعة سابقه. لكن عندما جاء الإسلام، جاء بالشريعة الكاملة، فلم تعد هناك حاجة لنبي جديد. قال الله –تعالى- مخاطبًا النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (سبأ: 28).
وهذا يعني أن رسالته –صلى الله عليه وسلم- عالمية، صالحة لكل البشر، ولكل العصور، بخلاف من سبقه من الأنبياء الذين أُرسلوا لأقوامهم خاصةً.
رابعًا: هل يتركنا الله دون هداية في ظل المتغيرات المستمرة؟
كلا، بل إن الله -عز وجل- جعل الإسلام نفسه مرنًا ليواجه التغيرات. فمن خلال أصوله المحكمة، يستطيع المسلمون معالجة المستجدات بالاجتهاد المستند إلى النصوص، دون أن نحتاج إلى نبي جديد. كما أن الله لم يترك الأمة بلا حراسٍ على هذا الدين، بل تكفل بحفظه، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9)؛ فالوحي محفوظ، والشريعة قائمة، والعلماء موجودون لتوضيح الأحكام، فلا مكان للضياع، ولا حاجة لنبي جديد.
أخي الحبيب، إن الشيطان يُلقي في القلوب الشبهات، ولكن الله يمنح عباده نور اليقين. والإسلام ليس دينًا جامدًا؛ بل هو وحي خالد، قائم على الكتاب والسنة، متجدد بالاجتهاد، محفوظٌ بحفظ الله. فلا تجعل المتغيرات تشوش يقينك، بل انظر كيف أن الله أراد لنا أن نكون أمةً شاهدةً على الأمم، تحمل الحق الذي لا يَضمحل، والهداية التي لا تزول.
ثبتنا الله وإياك على صراطه المستقيم، وجعلنا من عباده الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.