الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : قضايا إنسانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
77 - رقم الاستشارة : 2710
16/09/2025
الصورة أصبحت تحتل مكانًا كبيرًا في وعينا، فما آثار ثقافة الصورة على وعينا وأخلاقنا، فالجميع أصبح عاشقًا الصورة حتى الأئمة في الصلاة؟
أخي الكريم، نحن نعيش في عصر الصورة، الذي يفرض ثقافته وأخلاقياته على الجميع، فالتكنولوجيا غير محايدة، وكل تقدم علمي وتكنولوجي له ثقافته وتأثيراته على الإنسان، والصورة من أهم ما يؤثر على وجدان الناس وثقافتهم.
ماذا تعني ثقافة الصورة؟
البصر من أقوى حواس الإنسان، والصورة مثيرة للمشاعر ولها تأثير على الغرائز، وقادرة على الاستحواذ على الانتباه دون أدنى كلمة، ومن قديم قيل "الصورة أقوى من ألف كلمة"، كما أن الصورة تبعث رسائلها في أغلب الأحيان بوضوح شديد وتأثير كبير، وتختزنها الذاكرة بسهولة.
يشير مفهوم ثقافة الصورة إلى جملة من العناصر المهمة؛ فالمفهوم يعبر عن "امتلاك الصور سلطة في تشكيل الأفكار والهويات والسلوكيات عبر مختلف المجالات اعتمادًا على قدرتها العالية على الإقناع ونقل الرسائل بسرعة وبدون حواجز لغوية؛ ما يجعلها لغة عالمية قادرة على إعادة صياغة الوعي المجتمعي وتوجيه الإدراك البشري".
ومن هنا يمكن فهم ما كتبه المفكر الراحل الدكتور مصطفى حجازي من أن "الصورة من المحتمل أن تكون هي المرجع الثقافي الأساسي للأجيال القادمة"؛ فالصورة تتوغل في وجدان الناس وتحتل مكانها في تشكيل ثقافتهم، وتنتج آثارها الأخلاقية.
وفي عصرنا الرقمي المشبع بالصورة، نحن محاطون بالصورة منذ الاستيقاظ حتى النوم، بل إنها تتسرب إلى عالم الأحلام واللاوعي لتؤثر فيه بقوتها، في كتابه "ماذا تريد الصورة" يذكر البرفيسور الأمريكي "دبليو جيه تي ميتشل" عبارة ذات أهمية كبيرة في تأثير الصورة على القيم والأخلاق، فيقول: "نحن لا نكتفي بتقييم الصور؛ بل تُدخل الصور أشكالاً جديدة من القيم إلى العالم، مُتحديةً معاييرنا، ومُجبرةً إيانا على تغيير آرائنا... فالصور ليست مجرد كيانات سلبية تتعايش مع أجسادنا، تمامًا كما الكائنات الدقيقة التي تعيش في أمعائنا، إنها تُغير طريقة تفكيرنا ورؤيتنا وأحلامنا".
الصورة والأخلاق
في كتابه "دين الحياء" الجزء الثاني يربط الفيلسوف المغربي "طــه عبد الرحمن" بين الصورة والتغيرات الأخلاقية في المجتمع المعاصر، واصفًا تلك الحالة بأنها نوع من الشرود الأخلاقي، فيذكر أن الصورة لا تنقطع عن الإنسان حتى وإن أغمض عينيه، فهي تحتل باطنه وتصوره، وهناك حالة من "عشق الصورة" تكرست معها "خائنة الأعين"؛ لذا سادت خيانة البصر.
ورأى "طـه" أن هناك طغيانًا للصورة، حيث تتحدد كل قيمة بما تتلبسه من صورة، فاستولى حب المظاهر والجاه على قلب الإنسان بطريقة مخيفة، حتى في لحظات الموت يريد ذلك الإنسان أن يستحضر بهرجة الصورة وليس هيبة المشهد وخشوعه.
ومع هذا الطغيان تأسست علوم وطقوس ومظهريات تقدس الصورة وتضع لها قواعدها، فزاد طغيانها وافتتانها بذاتها وتأثيرها، فالمشاهد يجلس أمام الشاشة مستسلمًا خاشعًا كأنه يقف بين يدي الرب في المحراب، ملتزمًا بآدابها وتوقيتاتها، فصرنا أمام "دين الصورة"، وصارت الصورة نهاية وغاية وليست وسيلة ووسيطًا، فتحولت إلى حجاب كثيف يُخفي ما وراءه، فزاغ البصر وطغى، فكانت الفرجة وريثة الدين بعد احتلالها الشامل للحياة الاجتماعية؛ لأن الشاشة تسيطر على الإنسان وقتًا وفكرًا ووجدانًا، فتعطلت حركته وعضلاته وانكمشت لغته وكلماته.
لكن الأكثر خطورة -كما يشير الدكتور طه عبد الرحمن- أن الصورة أيقظت الغرائز والشهوات، فالنظر والصورة يوقظان الغرائز، ومع تمادي النظر يوقظ حب التملك ويتوحش، وتنهض الشهوة وتسعى للإشباع، فينشأ التسلط والفجور، وإذا أدركنا أن الصورة المعاصرة تنزع إلى التجديد في إثارتها لاكتساب جمهور جديد، فيتجدد الاشتهاء والتسلط، فلا النفس تشبع، ولا الغريزة تنطفئ، فتتبدد الطاقات ويزداد التيه والقلق، ومع تخمة الصور يُحاصر القلب، ولا تجد الروح فسحة للتأمل والتفكر والتزكية.
روابط ذات صلة: