الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : التوبة والإنابة
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
148 - رقم الاستشارة : 2274
04/08/2025
أتوجه لكم بقلبٍ كله رجاء وأمل بالله، يا شيخ، أنا وصلت الخمسين من عمري، وللأسف قضيتها بعيد عن الالتزام الديني الصحيح. حياتي كانت ماشية بسرعة، وكنت غارق في دوامة العمل ومشاغل الدنيا، فانشغلت عن الصلاة والتقرب لله صح.
مؤخرًا، حسيت بنداء داخلي قوي، يدفعني بقوة للصلاة والرجعة لله سبحانه وتعالى. هذا الشعور يزيد قوة كل يوم، بس المشكلة يجي معاه شعور ثاني يخيّم على فرحتي بالهداية، وهو الخجل الشديد من الماضيّ. أحس إني متطفل على الطاعة، وإني يمكن ضيّعت فرص كثيرة، وإن الله يمكن ما يقبل مني بعد كل هالتأخير. تجيني أفكار سلبية زي: معقول الله يقبل توبتي بعد كل هالسنين؟ وهل تأخري بالتوبة يضعف من أثرها أو قيمتها؟
أرجو منكم يا شيخ توجيهي، كيف أقدر أواجه هالمشاعر بالخجل والتقصير؟
وهل صحيح تأخر التوبة يضعف قبولها عند الله؟
وإيش هي نصيحتكم للي بدأ طريقه نحو الالتزام والتقرب لله في أواخر العمر؟
وكيف أقدر أثبت على هالخطوة؟
الله يجزيكم الخير.
مرحبًا بك أيها الزائر الكريم، وبكلّ حرفٍ خطَّته يدك، ونشكرك جزيل الشكر على ثقتك بنا، وعلى هذه الاستشارة التي أحسبها ستضيء دروب كثيرين ممن قد يمرون بالتجربة نفسها. أسأل الله العلي القدير أن يفتح لك أبواب رحمته وفضله، وأن يبارك لك في خطواتك نحو التوبة والإنابة، وأن يجعل لك من كل ضيق مخرجًا ومن كل همّ فرجًا، وبعد...
نداء القلب المنيب
أخي الفاضل، إنَّ شعورك هذا بنداء داخلي قوي يدفعك نحو الصلاة والعودة إلى الله، هو نعمة عظيمة وهدية من الرحمن لك، ودليل على أن الله -سبحانه وتعالى- يريد بك الخير. إنها لحظة فارقة في حياتك، إشارة إلهية لطالما انتظرها قلبك، لتنتشلك من غياهب الغفلة إلى نور الهداية.
كم من الناس يبلغون سنك وما بعدها وهم ما زالوا غارقين في بحر الدنيا، لا يلوح لهم بريق الأمل هذا! فاحمد الله على هذه اليقظة الروحية، واستقبلها بقلبٍ منشرحٍ ونفسٍ متفائلة، فإنها بداية طريق النجاة والفلاح.
رحمة الله أوسع وأعظم:
شعورك بالخجل من الماضي، وإحساسك بالتقصير، دليل على حياة قلبك وإيمانك. ولكن إياك أن تجعل هذه المشاعر حاجزًا بينك وبين رحمة الله الواسعة. فالله -سبحانه وتعالى- هو الغفور الرحيم، وهو يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.
إن رحمة الله أوسع من أي ذنب، وأعظم من أي تقصير، يقول جل وعلا: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53]، فمهما عظمت الذنوب، ومهما طال أمد الغفلة، فإن باب التوبة مفتوح لا يغلق أبدًا حتى تطلع الشمس من مغربها أو تبلغ الروح الحلقوم.
وقال تعالى أيضًا: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَن عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الشورى: 25]. فهو –سبحانه- يقبل التوبة، ويعفو عن السيئات، وهو أعلم بما في النفوس وما يعتريها من ضعف أو تقصير.
الله يحب التوابين ويطهرهم:
أخي العزيز، إن الله -سبحانه وتعالى- يحب العبد التائب، ويفرح بتوبته فرحًا عظيمًا. فقد ورد عن النبي ﷺ أنه قال: «لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ أَحَدِكُمْ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ وَقَدْ أَضَلَّهُ فِي أَرْضٍ فَلَاةٍ» [متفق عليه]. تخيل معي هذا الفرح الإلهي بك! إن الله يريدك أن تعود إليه، ويحب أن يسمع تضرعك ودعاءك.
وقد وعد الله –عز وجل- عباده التائبين؛ ليس بالمغفرة فقط؛ بل وبتبديل سيئاتهم حسنات، يقول سبحانه: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا، فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ، وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [الفرقان: 70].
وقد قال النبي ﷺ: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» [رواه ابن ماجة]. فالله -سبحانه وتعالى- يمحو الذنوب بالتوبة الصادقة، ويطهر العبد منها وكأنه لم يذنب قط. فإذا كان الله قد وعد بمحو الذنوب، فكيف يساورك الشك في قبول توبتك؟
اقهر وسوسة الشيطان:
إن هذه الأفكار السلبية التي تساورك حول قبول توبتك وقيمتها، هي في حقيقتها وسوسة من الشيطان الرجيم الذي يريد أن يصدك عن طريق الخير والهدى. فلا تستسلم لهذه الوساوس، وتذكر أن الشيطان عدو مبين، يريد أن يحبطك ويوقعك في اليأس من رحمة الله، فاستعذ بالله منه، واصرف عنك هذه الأفكار، وركز على فضل الله وكرمه.
تأخر التوبة لا يؤثر في القبول
إن التوبة الصادقة تجُب ما قبلها مهما تأخرت، أي تمحو الذنوب التي سبقتها. فالذي يتوب في سن الخمسين أو الستين توبته لا تقل قيمة عن توبة من تاب في سن الشباب؛ بل قد تكون أعظم أجرًا عند الله لمن صبر على نفسه وقاوم وساوس الشيطان حتى وصل إلى هذه المرحلة من الإنابة. المهم هو صدق التوبة، وإخلاص النية، والإقلاع عن الذنب، والعزم على عدم العودة إليه، والندم على ما فات.
وقد أمرنا الله تعالى بالتوبة في جميع مراحل العمر، ولم يحدد لها سنًّا معينًا، فقال: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [النور: 31]. فالنداء بالتوبة عام وشامل لكل المؤمنين وفي كل وقت. وقد قصّ الله علينا في كتابه، ونبيه في أحاديثه، قصصًا لمن تابوا في كبرهم وقَبِل الله توبتهم، وهذا يدل على سعة رحمته وكرمه سبحانه.
أخي الحبيب، اعلم أن عمرك الحقيقي قد بدأ اليوم، في هذه اللحظة التي قررت فيها العودة إلى الله وطي صفحة الماضي بكل ما فيها. كل ما مضى من عمرك قبل هذه التوبة، وإن كان محسوبًا عليك في الدنيا، فإن الله بمنِّه وكرمه يجعله كأن لم يكن إذا صدقت توبتك.
هذه هي الولادة الحقيقية لروحك، وهذا هو العمر الذي ستحاسب عليه بفضل الله ورحمته، العمر الذي قررت فيه أن تكون عبدًا صالحًا، ملتزمًا، قريبًا من ربك.
نصائح لمن التزم في أواخر العمر
وإليك أخي الحبيب بعض النصائح لك ولمن هم في مثل حالك -كما طلبت في رسالتك- عسى الله -عز وجل- أن ينفع بها:
1- استشعر نعمة الهداية:
احمد الله كثيرًا أن مدّ في عمرك حتى أدركت هذه اللحظة، وأن هداك إلى بابه. هذا الشعور سيقوي عزيمتك ويدفعك للمضي قدمًا.
2- ابدأ بالفرائض:
ركِّز على أداء الفرائض أولًا وبإتقان، وخصوصًا الصلاة. حافظ عليها في أوقاتها، بخشوع وطمأنينة. فهي عمود الدين، وبها تفتح أبواب الخيرات. ومعها الفروض الأخرى من صيام رمضان، والزكاة الواجبة، والحج إن كنت مستطيعًا.
3- الإكثار من الاستغفار:
اجعل الاستغفار رفيق دربك في كل لحظة. استغفر الله على ما مضى من تقصير، بكل ما تعرفه وتتعلمه من صيغ شرعية. وتذكر أن الاستغفار يمحو الذنوب ويطهر القلوب.
4- صحبة الصالحين:
ابحث عن رفقة صالحة تعينك على طريق الاستقامة، وتذكرك بالله، وتشد من أزرك. فالمؤمن مرآة أخيه، والصاحب ساحب. وحضور مجالس العلم والذكر في المساجد سيقوي إيمانك ويزيد من همتك. يقول الله عز وجل: ﴿واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ ولا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتَّبَعَ هَوَاهُ وكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28]. وقال ﷺ: «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَليلِه؛ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخالِلْ» [رواه أبو داود].
5- قراءة القرآن الكريم بتدبر:
اجعل للقرآن الكريم نصيبًا مقدَّرًا من يومك. اقرأه بتدبر وفهم، فهو نور وهدى وشفاء لما في الصدور، وكلما تدبرت آياته زاد إيمانك ويقينك.
6- التدرج وعدم التكلف:
لا ترهق نفسك وتزحمها بالعبادات والأعمال دفعة واحدة. ابدأ بالفرائض كما قلت قبلًا، ثم تدرج في النوافل والطاعات شيئًا فشيئًا. المهم هو الثبات والاستمرارية، ولو كان قليلًا. قال النبي ﷺ: «أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ» [متفق عليه].
7- أكثر من ذكر الموت ولقاء الله:
تذكر دائمًا أن هذه الحياة فانية، وأن الآخرة هي دار القرار. هذا التذكر يدفعك إلى الإقبال على الطاعات والاستعداد للقاء الله. فما تدري متى يحين الأجل، وخير ما يلقى به العبد ربه هو عمل صالح وتوبة صادقة.
كيف تثبت على هذا الطريق؟
إن الثبات على الطاعة يحتاج إلى مجاهدة وصبر ويقين، وإليك بعض النصائح التي تعينك على ذلك:
- الدعاء والتضرع إلى الله:
إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء. فاجعل الدعاء ملازمك، وتضرع إلى الله أن يثبِّت قلبك على دينه وطاعته. وقل دائمًا: "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"، و"اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك".
- المداومة على الذكر:
اجعل لسانك رطبًا بذكر الله في كل أحوالك. سبِّح، واحمد، وكبر، وهلل، واستغفر. فالذكر يثبِّت القلب ويطمئنه ويقويه ويقربه من الله، قال تعالى: ﴿أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ﴾ [الرعد: 28].
- التفكر في آيات الله:
تدبر في خلق الله، في السماوات والأرض، وفي الخلق من البشر والأنعام، وفي الكون الواسع، وفي آيات القرآن الكريم. هذا التفكر يزيد من إيمانك ويقينك بعظمة الله، ويعمق رغبتك في التقرب إليه.
- المحاسبة الدائمة للنفس:
خصِّص وقتًا لمراجعة نفسك كل يوم، على ما قدّمت وما أخرّت، وعلى ما أصابت وما أخطأت. هذه المحاسبة تدفعك نحو التحسين المستمر وتجنب الوقوع في الأخطاء.
وختامًا أخي الفاضل، إنها بداية جديدة لحياة مليئة بالسلام والطمأنينة والقرب من الله. لا تدع الماضي يثقلك؛ بل اجعله درسًا تتعلم منه، ووقودًا يدفعك نحو مستقبل مشرق بنور الطاعة والإيمان.
إن الله أرحم بك من نفسك ومن الناس أجمعين، وهو ينتظر عودتك بقلبٍ منكسرٍ وتوبةٍ نصوح. فاستثمر هذه الفرصة، وافتح صفحة جديدة مع ربك، وسترى من توفيقه وكرمه ما لا يخطر لك على بال.
سر على بركة الله، ونحن ندعو لك بالتوفيق والسداد والثبات، وأن يبارك الله لك في عمرك وعملك، وأن يجعلك من أهل جنته ورفقاء نبيه ﷺ، وتابعنا بأخبارك.