الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : التوبة والإنابة
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
76 - رقم الاستشارة : 2384
16/08/2025
كنتُ والحمد لله من أهلِ الصلاة وقراءة القرآن، لكن منذ فترة ابتليتُ بمعصية معينة. حاولت التوبة منها مرارًا، وفي كل مرة أعود إليها بعد فترة قصيرة. عاهدت الله كثيرًا، لكنّي أشعر بالإحباط واليأس، وكأنّي أعيش في حلقة مفرغة من المعصية والتوبة والعودة.
لذلك، أرجو منكم أن تضعوا لي برنامجًا عمليًا ومفصلًا للثبات على التوبة، لا يكون مجرد نصائح عامة، بل خطوات واضحة تساعدني في التخلص من هذه المعصية نهائيًا.
مرحبًا بك يا ولدي، وأشكر لك تواصلك الطيب معنا، وأسأل الله أن يبارك فيك وأن يرزقك الثبات والتوفيق، وأن يفتح عليك من أبواب رحمته، وبعد...
فلا تيأس أبدًا –يا ولدي- من رحمة الله، ولا تجعل للشيطان مدخلًا إلى قلبك بالوسوسة والإحباط. فإن شعورك بالندم ورغبتك في التوبة لدليل على أن الخير ما زال فيك، وكلنا خطاؤون، ولكن خير الخطائين التوابون.
ولدي الحبيب، إن الله -سبحانه وتعالى- أرحم بك من نفسك، وهو يعلم ضعفك، ويرى صدق توبتك في كل مرة، ولذلك فتح لك باب التوبة على مصراعيه، وجعل الاستغفار وسيلةً للعودة إليه. يقول تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53].
برنامج عملي للثبات على التوبة
أيها الابن الحبيب، ما سأطرحه عليك الآن ليس مجرد نصائح عامة كما طلبت؛ بل هو «خريطة طريق» تضع قدميك على أول خطوات الثبات.
هذه الخريطة تتكون من ثلاثة أركان أساسية:
الركن الأول: قطع جذور المعصية
المعصية مثل الشجرة التي لها جذور وساق وأغصان وثمار، لن تستطيع اقتلاعها ما دامت جذورها في الأرض، ولذلك يجب أن تبدأ بقطع كل ما يغذيها، وكل الأسباب التي تؤدي إليها. أي: أغلق الأبواب والنوافذ التي تسبق الذنب: رفقة سيئة، هاتف، خلوة، فراغ. وقد قال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]. فالبيئة الصالحة هي أهم عامل للثبات.
ثم بعد ذلك ينبغي لك شَغْلُ فراغك بما ينفع: رياضة، علم، تطوُّع؛ فالفراغ مزرعة الفتن. وقد قال أبو العتاهية، رحمه الله: إن الشباب والفراغ والجِدَة؛ مفسدة للمرء أيُّ مفسدة.
الركن الثاني: بناء حصنٍ منيع بالإيمان
حتى لا تعود جذور المعصية للنمو مرة أخرى، يجب أن تزرع في أرض قلبك أشجارًا قويةً من الإيمان والعبادة، منها:
- أداء الفرائض في أول وقتها، وركعتا الضحى، وصلاة الوتر، ووِرد ثابت من القرآن. يقول الله تعالى: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۖ وَلِذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [العنكبوت: 45].
- صيامُ التطوع، كالاثنين والخميس، قدر المستطاع؛ فالصومُ يكسرُ الشهوة ويقوّي الإرادة.
- ابحث عن أصدقاء صالحين يذكرونك بالله، ويكونون عونًا لك على الطاعة، يقول الله عز وجل: ﴿واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ ولا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتَّبَعَ هَوَاهُ وكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28]. وقال ﷺ: «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَليلِه؛ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخالِلْ» [رواه أبو داود].
- صدقة في السر بعد كلِّ سقطةٍ، وكأنك تُقدِّم كفّارةً لله. وتعاهد نفسَك: كلما زلَّت قامت بعملِ خيرٍ ملموس. قال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ [التوبة: 103].
- التعويض بالحسنات، تطبيقًا لقول النبي ﷺ: «وأَتْبِعِ السّيّئةَ الحسنةَ تمحُها» [الترمذي]. وقد وعد الله –عز وجل- وبشَّر التائبين، بقوله: ﴿إلا مَن تَابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا . ومَن تَابَ وعَمِلَ صَالِحًا فَإنَّهُ يَتُوبُ إلَى اللَّهِ مَتَابًا﴾ [الفرقان: 70 و71].
- استشعار مراقبة الله، فهذا يدعو للحياء منه سبحانه، فكلما خلوتَ، تذكّر نظره إليك؛ ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ [العلق: 14]، قم فتوضأ وصلِّ ركعتين.
الركن الثالث: الاستعانة بالله والدعاء المستمر
- عليك دائمًا بقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله»؛ فكل ما تفعله لن يثمر إلا بمعونة الله. والتزم قدر استطاعتك بأذكار الصباح والمساء، وأذكار الأحوال، والدعاء في السجود وبين الأذان والإقامة وفي جوف الليل.
- أكثر من دعاء: «يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك. اللهم آتِ نفسي تقواها وزكِّها أنت خير من زكّاها». وأكثر من سيد الاستغفار: «اللَّهُمَّ أنْتَ رَبِّي لا إلَهَ إلَّا أنْتَ، خَلَقْتَنِي وأنا عَبْدُكَ، وأنا علَى عَهْدِكَ ووَعْدِكَ ما اسْتَطَعْتُ، أعُوذُ بكَ مِن شَرِّ ما صَنَعْتُ، أبُوءُ لكَ بنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وأَبُوءُ لكَ بذَنْبِي فاغْفِرْ لِي؛ فإنَّه لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أنْتَ» [رواه البخاري].
- المحاسبة اليومية: في نهاية كل يوم اسأل نفسك: متى ضعفت؟ ما السبب المباشر؟ ما الذي سأغيِّره غدًا؟
- التدرّج: لا تُعلّق قلبك بهدف «صفر سقطات»؛ بل بخطِّ نزولٍ مُستمر لمنحنى السقوط حتى يتلاشى.
وإن سقطت -لا قدّر الله- فافعل فورًا أربعة أمور: اغتسل أو توضأ، وصلِّ ركعتين توبة، واستغفر بصدق، واعمل حسنة (صدقة مثلًا). ولا تعقد يمينًا قد تنكثه، ولا نذرًا قد لا تستطيع الوفاء به، بل الزمْ الدعاء والعمل الهادئ المستمر المتدرج.
وختامًا يا ولدي، تذكر أن رحلة التوبة والعودة إلى الله ليست سهلةً دائمًا، ولكن ثمارها حلوة. قد تتعثر مرَّات، ولكن لا تجعل التعثر سقوطًا نهائيًّا، وتذكر قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 135]. أي أن المهم هو أن تنهض فورًا، وتنفض عنك غبار الذنب، وتجدد توبتك.
لا تيأس، واعلم أن الله معك، يراك ويسمعك، وهو أقرب إليك من حبل الوريد. جدد العهد مع الله اليوم، وابدأ في تطبيق هذا البرنامج، وسترى بعينيك كيف يفتح الله لك أبواب التوفيق والخير. وننتظر منك أخبارًا سارةً عن ثباتك وتقدمك. ولا تنسنا في دعائك.