الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : التوبة والإنابة
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
1350 - رقم الاستشارة : 2284
05/08/2025
بعد فترة طويلة من التوبة الصادقة والعودة إلى الله، حدثت لي انتكاسة مفاجئة، ضعفتُ فيها أمام الشهوة، وفعلت ما كنت أظن أنني تخلّصت منه إلى الأبد.
الآن أعيش في حالة من الخجل الشديد من نفسي، ومن الله بالطبع.
كيف يرضى الله عني بعد أن خنت العهد؟
هل ما فعلته يهدم كل ما بنيتُه سابقًا؟
وكيف أعود دون أن أُحبط أو أنتكس مرة أخرى؟
مرحبًا بك أخي الكريم، وأشكرك على ثقتك بنا، وتواصلك معنا، وأسأل الله أن يبارك فيك ويتقبل توبتك، وأن يثبت قلبك على دينه، وأن يجعلك من عباده الصالحين الأوابين، وبعد...
فيا أخي الحبيب، إن شعورك هذا بالندم والخجل هو أول خطوة في طريق العودة الصادقة إلى الله. إن قلبك الذي يشعر الآن بالأسى والحسرة على ما فات، هو القلب ذاته الذي أحب الله وتاب إليه من قبل. لا تظن أن الله قد تخلى عنك أو أغلق في وجهك باب رحمته، فالله أرحم بك من نفسك، وأقرب إليك من أي مخلوق.
إن الشيطان يتربص بك الآن ليجعلك تيأس من رحمة الله، ويوهمك بأن كل ما بنيته قد تهدَّم، ولكن كن على يقين بأن هذا غير صحيح، وأن رحمة الله وسعت كل شيء، وأن بابه –سبحانه- مفتوح لكل من قصده.
هل يرضى الله عنك بعد أن خنتَ العهد؟
نعم، يرضى عنك، بل ويفرح بعودتك. إن التوبة علاقة حب بين العبد وربه، فيها المد والجزر. قد تضعف النفس البشرية وتُخطئ، ولكن المهم هو العودة السريعة والندم الصادق. يقول الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [سورة الزمر: 53].
وقد ورد في الحديث القدسي الذي رواه النبي ﷺ عن ربه: «يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لأتيتك بقرابها مغفرة» [رواه الترمذي].
فالله يحب العبد الأواب الذي كلما أذنب عاد إليه. وهو سبحانه «يَبْسُطُ يَدَهُ باللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مَغْرِبِهَا» [رواه مسلم].
هل ما فعلتَه يهدم كل ما بنيتَه سابقًا؟
لا، لا يهدم؛ بل هو اختبار لمقدار صدقك وقوة إيمانك. إن حسناتك السابقة لا تضيع عند الله. فالله تعالى يقول: ﴿ومَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ إنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [البقرة: 143]، بل إنه قد يجعل حسناتك السابقة كما التالية مكفرات لذنوبك وخطاياك، إذ يقول جل وعلا: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [سورة هود: 114]؛ بل من سعة رحمة الله -عز وجل- وفضله، قد يبدل سيئاتك نفسها حسنات: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا، فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ، وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [الفرقان: 70].
صحيح أن الذنب يترك أثرًا في القلب، ولكن بالتوبة الصادقة والعودة إلى الطاعات، تمحى هذه الآثار بإذن الله.
لا تدع الشيطان يوهمك بأنك عدت إلى نقطة الصفر؛ بل أنت الآن أقوى من ذي قبل؛ لأنك عرفت ضعف نفسك، وتذوقت مرارة الذنب بعد حلاوة الطاعة. هذه التجربة القاسية ستكون دافعًا لك للتمسك أكثر بدينك، والاجتهاد في العبادة.
كيف تعود دون إحباط أو انتكاس؟
هذه المرحلة تحتاج منك إلى عزيمة وإخلاص واجتهاد، وإليك بعض الخطوات العملية التي تأخذك إلى رضا الله سبحانه:
1- جدّد توبتك الآن: قم وتوضأ وصلّ ركعتين، واستغفر الله بقلب صادق، واطلب منه العون والثبات. اعترف بضعفك وتقصيرك، واجعله يرى منك صدق العودة.
2- لا تستسلم للإحباط: تذكر أن الوقوع في الذنب ليس نهاية المطاف؛ بل العبرة بالقيام بعد السقوط. اجعل من هذا السقوط دافعًا لك لتكون أقوى وأكثر حذرًا. لا تجعل الخجل يمنعك من العودة؛ بل اجعله وقودًا لسرعة رجوعك.
3- احرص على أسباب الثبات:
ومنها:
- ابتعد عن الأماكن والأشخاص التي قد تذكرك بالذنب أو تشجعك عليه، واحرص على مصاحبة من يعينونك على الطاعة.
- حافظ على فرائضك من صلاة وصيام، وأكثر من النوافل والطاعات، وخصوصًا قيام الليل والاستغفار.
- اجعل لك وردًا يوميًّا من القرآن قراءةً وتدبرًا، فهو شفاء للقلوب ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ [سورة الإسراء: 82].
- اجعل الدعاء سلاحك الدائم، اطلب من الله الثبات واليقين. قال رسول الله ﷺ: «إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فسلوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم» [رواه الحاكم في المستدرك].
وختامًا أخي الحبيب، إن رحمة الله لا حدود لها، وباب التوبة لا يُغلق أبدًا. لا تجعل هذه الانتكاسة نقطة نهاية؛ بل اجعلها بداية جديدة، وعودة تملؤها العزيمة والثبات. ثق أن الله معك، ينظر إليك الآن وأنت تقرأ هذه الكلمات بقلب منكسر، ويفرح بعودتك الصادقة.
عد إليه الآن، ولا تتردد، واستقبل حياتك الجديدة بنفس مطمئنة، وقلب يملؤه اليقين. نسأل الله أن يتقبل منك، وأن يجعلك من الأوابين التوابين، وأن يثبتك على الحق حتى تلقاه.