الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : التوبة والإنابة
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
100 - رقم الاستشارة : 2313
07/08/2025
السلام عليكم..
منذ سنتين، منَّ الله عليّ بالهداية والالتزام بدينه، وبدأت رحلتي في التقرب إليه بصدق وإخلاص. لقد تغيرت حياتي جذريًّا، ليس فقط في العبادات؛ بل في نظرتي لكل شيء حولي؛ للأشياء، للأشخاص، للحياة نفسها.
ولكن هذا التغيير جلب لي شعورًا بالغربة لم أعهده من قبل. أصبحت أشعر وكأنني لا أنتمي لهذا العالم، ولا أجد مكانًا لي فيه. ففي كل تجمع، وفي كل مناسبة اجتماعية، أجد نفسي أبتعد عن أجواء اللهو الذي يمارسه مَن حولي حتى لو كان بريئًا. لم أعد أجد لذة في أحاديثهم أو اهتماماتهم التي تدور في فلك الدنيا وزينتها.
هذه الغربة امتدت لتشمل أقرب الناس لي. فمع أني أحبهم إلا أني لا أجد من يشاركني تفكيري، أو من يفهم ما يدور في روحي. حتى عندما أحاول التحدث عن أمور الدين أجد جدارًا من الصمت أو عدم الفهم، مما يجعلني أعيش في عزلة نفسية وروحية مؤلمة.
أحيانًا، في لحظات ضعفي، أتمنى لو أني لم ألتزم. أتمنى لو أنني كنت شخصًا عاديًّا، أعيش حياتي بشكل عادي!
فهل هذا الشعور بالغربة علامة قرب من الله أم هو ابتلاء عليَّ أن أصبر عليه؟
وما السبيل لطمأنينة القلب وسط كل هذا الضجيج الخارجي والداخلي؟
كيف أوفق بين واجبي في مخالطة الناس وحاجتي للسكينة؟
وجزاكم الله خيرًا.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته...
مرحبًا بك أخي الكريم، وأشكرك على رسالتك الصادقة التي تحمل بين طياتها نورًا وألمًا؛ نور الهداية واليقين، وألم الغربة والانفراد. وأشكرك أيضًا على ثقتك بنا، وأسأل الله –سبحانه- أن يجعلنا عند حسن ظنك، وأن يفتح علينا وعليك من فضله ورحمته، وأن يثبت قلبك على دينه، وأن يملأه أنسًا به، وغنىً عن خلقه، وبعد...
إنها غُربة المؤمن
أخي الحبيب، يا من اصطفاك الله واختارك لدربه، هنيئًا لك هذا القلب الذي أشرق بنور الهداية، وأبشرك بأن شعورك هذا بالغربة هو شعور الأنبياء والصالحين من قبلك. إنه شعور من ذاق حلاوة القرب من الله، فلم يعد يستسيغ مرارة البُعد عنه. إنه شعور القلب الذي وُلد من جديد، ليجد نفسه في عالم لم يعد يتناسب مع نقائه وصفائه. هذه الغربة، هي غربة المؤمن في عالم يتخبط في ظلمات الغفلة.
يقول النبي ﷺ: «بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء» [رواه مسلم]، وهذه الغربة ليست ابتلاءً سلبيًّا، بل هي علامة فخر واصطفاء. إنه شعور المؤمن الصادق الذي لم يعد يميل إلى زخرف الدنيا؛ بل يتوق إلى الآخرة وما فيها.
هل الشعور بالغربة علامة قرب من الله أم هو ابتلاء؟
أخي الحبيب، إن هذا الشعور هو علامة قرب من الله وهو أيضًا ابتلاء، في آن واحد:
علامة قرب من الله؛ حيث تغيرت نظرتك للحياة، وتجلى الحق في قلبك، فأصبحت ترى الأمور على حقيقتها. أصبحت ترى الدنيا على أنها مجرد محطة عابرة، وليست دار إقامة، كما ذكر الله –تعالى- في كتابه العزيز: ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ [الأعلى: 17]، وهذا الإدراك هو تحول جذري في الوعي، وهو ما يجعلك تشعر بالغربة عمَّن لا يزالون يعيشون في سجن الدنيا. وهذه الغربة هي نور في قلبك يميزك عن غيرك. إنها منَّة من الله عليك لتقترب منه أكثر، لتأنس به وحده، لتجد فيه البديل عن كل ما فقدت من أنسٍ بخلقه.
وهي أيضًا ابتلاء يستوجب الصبر، فالله يبتلي عباده ليختبر صدقهم وقوة إيمانهم. يقول الله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: 155 و156].
فهذه الغربة التي تشعر بها هي نوع من الابتلاء، ابتلاء بالانفراد عن الأهل والأصحاب، ولكن تذكر أن هذا الابتلاء ليس عقابًا؛ بل هو اختبار لثباتك، ودليل على أنك على الطريق الصحيح، فاصبر، يا أخي، على هذه الغربة، فصبرك عليها يأجرك الله عليه، ويثبت قدمك، ويرفع درجتك.
ما السبيل لطمأنينة القلب؟
أخي الكريم، إن طمأنينة القلب تأتي من اتصالك الدائم بالله عز وجل، ويتحقق ذلك لك من طريق:
1- الإكثار من ذكر الله
يقول الله تعالى: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]، فاجعل لسانك رطبًا بذكر الله؛ سبِّحه، واستغفره، واحمده، وكبّره، وادعُه في كل وقت وحين. الذكر هو الحبل الذي يربطك بالسماء، ويمنعك من السقوط في اليأس والحزن.
2- قراءة القرآن بتدبر
القرآن هو رئتك الثالثة، والبوصلة التي أعطاك الله إياها لترشدك في طريقك. تدبر معانيه، وعش قصصه، وتأمل في آياته ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر: 23]، فعندما تتأمل في آيات القرآن، ستجد أنك لست وحدك، ستجد قصص الأنبياء والصالحين الذين عانوا من الغربة مثلك، وستجد في قصصهم سلوى وعبرة.
3- التنفُّل والتهجد
الصلاة هي معراج الروح، وهي لحظات خلوتك بالله. يقول النبي ﷺ: «وجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي في الصَّلاةِ» [رواه النسائي]. اخلُ بربك في جوف الليل، ناجِه، وبثَّ له همومك، واسأله طمأنينة القلب، وثق بأنه سيجيب دعاءك.
التوفيق بين مخالطة الناس والحاجة للسكينة؟
يا أخي، إن المؤمن الصادق لا يعتزل الناس تمامًا؛ بل يوازن بين مخالطتهم وبين حاجته للخلوة والسكينة، ويكون ذلك عن طريق:
- الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة
لا تظن أن دعوتك إلى الله يجب أن تكون بالخطابة والمواعظ الطويلة؛ بل اجعل دعوتك بالقدوة الحسنة. يقول الله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125]، فكن قدوة في أخلاقك، في صدقك، في أمانتك، في تواضعك. اجعلهم يرون فيك نموذجًا للمؤمن الذي يعيش حياته بسلام وطمأنينة. قد يكون صمتك أبلغ من كلامك، وقد يكون فعلك أعمق أثرًا من قولك.
- البحث عن صحبة صالحة
صحيح أنك تشعر بالغربة، ولكن لا تيأس من البحث عمَّن يشبهك. يقول الله عز وجل: ﴿واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ ولا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتَّبَعَ هَوَاهُ وكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28]. وقال ﷺ: «الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَليلِه؛ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخالِلْ» [رواه أبو داود].
- الموازنة بين المخالطة والعزلة
لا تنعزل تمامًا، ولا تنغمس تمامًا؛ بل وازن بين الأمرين. اجعل لك نصيبًا من مخالطة أهلك وأصدقائك، واجعل نيتك في ذلك صلة الرحم والإحسان إليهم. وفي الوقت نفسه، اجعل لك نصيبًا من الخلوة بنفسك مع ربك، لتجدد فيها إيمانك، وتستعيد فيها قوتك الروحية. يقول النبي ﷺ: «المؤمنُ الذي يُخالِطُ الناسَ ويصبرُ على أذاهم خيرٌ من المؤمنِ الذي لا يُخالِطُ الناسَ ولا يصبرُ على أذاهم» [رواه الترمذي].
وختامًا -أخي الغالي- طريق الهداية ليس مفروشًا بالورود دائمًا، ولكنه مليء بالعقبات والاختبارات التي تصقل الروح وتقوي الإيمان. فهذه الغربة التي تشعر بها هي علامة على أن قلبك قد استيقظ من سباته، وبدأ يرى الحقائق التي لم يكن يراها من قبل. فاجعلها دافعًا لك للقرب من الله أكثر، واجعلها وقودًا لطمأنينة قلبك.
تذكر أن الله معك، يسمعك ويراك، ويقدِّر غربتك وصبرك: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ [الطور: 48] فلن يضيعك، ولن يخذلك.
أسأل الله أن يملأ قلبك أنسًا به، وأن يرزقك صحبة صالحة تعينك على الخير، وأن يجمعنا وإياك في الفردوس الأعلى، وتابعنا بأخبارك، ولا تنسنا في دعائك.