الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : إيمانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
69 - رقم الاستشارة : 1688
20/04/2025
أنا رجل بأواسط الأربعينات، متزوج وعندي ثلاث عيال أكبرهم بالثانوي، وأصغرهم بعده بالابتدائي. الحمد لله أموري المادية طيبة، وعايش بستر من ربي، وعندي شغل مستقر ولله الحمد.
من فترة، وأنا دايم أفكر بمستقبل عيالي، ومسوؤليتي تجاههم كأب. صاير يهمني أرتب أمورهم من الحين: دراستهم، زواجهم، وحتى شلون أضمن لهم شي بعد عمري يساعدهم على مصاريف الحياة. مرات أخطط حق مشاريع طويلة، ومرات أدور فرص استثمار أو أشتري عقارات أو أرتب تقاعدي من الحين.
لكن قبل كم يوم، حضرت درس ديني، وسمعت الشيخ يتكلم عن "طول الأمل"، وإنه مذموم بالدين، وإن الإنسان إذا طوّل أمله ينقسى قلبه وينسى الموت والآخرة. هالكلام صدمني شوي، وخلا عندي تساؤلات.
يعني هل أنا لما أخطط حق عيالي ومستقبلهم، وأدور أمان مادي لأسرتي، أكون قاعد أطوّل أملي بالدنيا؟
هل هالشي يتعارض مع التوكل على الله أو مع الزهد؟
صراحة، مرات أنسى أذكر الموت، وأفكر شلون راح تكون حياتي بعد التقاعد، وين أعيش، وشلون أرتاح بشيبتي.
فودي أعرف: هل هذا التفكير فيه خلل بالإيمان؟ ولا في فرق بين الأمل الطبيعي والتخطيط المشروع، وبين "طول الأمل" اللي ذمه الدين؟
أنا أبي أعيش بتوازن، لا أنسى آخرتي، ولا أكون متهاون بحق أسرتي ومستقبلهم.
مرحبًا بك أيها الأخ الكريم، ونشكر لك تواصلك معنا وثقتك الغالية، ونقدِّر هذه الروح المسؤولة واليقظة التي تتحدث بها، ونسأل الله -تبارك وتعالى- أن يبارك لك في نفسك وأهلك ومالك، وأن يرزقك السداد في القول والعمل، وأن يجعل ذريتك قرة عين لك في الدنيا والآخرة، وبعد...
فجميلٌ أن يخاف المؤمن من الخلل في نيَّته، وأن يقف وقفة محاسبة حين يسمع آية أو موعظة، وهذا من دلائل حياة القلب. وما أجمل أن نراك تحاول الجمع بين واجب الدنيا ومسؤولياتها، وبين أشواق الآخرة وحقائقها؛ فذلك هو التوازن الذي ندعو إليه، وتلك هي الصِّبغة الإيمانية التي تجعل المؤمن راسخًا في الأرض، شاخصًا ببصره إلى السماء.
ما هو «طُول الأمل»؟ ولماذا هو مذموم؟
«طُول الأمل» في الشرع هو أن يُغَلِّب الإنسان حُبَّ البقاء في الدنيا على العمل للآخرة، فيظن أن أمامه متَّسعًا من الوقت فيُؤَجِّل التوبة، ويُقصِّر في الطاعة، ويعيش وكأنه مخلَّد. وهذا هو المذموم في النصوص. قال الله تعالى: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ ٱلْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ [الحجر: 3]. وقال رسول الله ﷺ: «قَلْبُ الشَّيْخِ شابٌّ علَى حُبِّ اثْنَتَيْنِ: طُولُ الحَياةِ، وحُبُّ المالِ» [رواه مسلم].
فطول الأمل ليس مجرد التفكير في المستقبل، وإنما الغفلة التي تَنتُج عن الانشغال المفرط بالدنيا، حتى ينسى العبد المصير والوقوف بين يدي الله.
هل التفكير في مستقبل الأبناء مذموم؟
لا، بل هو من أعظم القُربات، وأرفع مراتب المسؤولية. قال النبي ﷺ: «كفى بالمرء إثمًا أن يُضيِّع من يقوت» [رواه أبو داود]. وقال: «أنْ تَدَعَ ورَثَتَكَ أغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِن أنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» [رواه البخاري].
وتأمَّل في قول الله تعالى، ونصحه للآباء: ﴿وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا۟ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةًۭ ضِعَٰفًا خَافُوا۟ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُوا۟ قَوْلًۭا سَدِيدًا﴾ [النساء: 9].
فالله -سبحانه- لم ينهَ عن الخوف على الأولاد؛ بل دعا إلى تحويل هذا الخوف إلى تقوى وسداد. أي: كن صالحًا، مستقيمًا، متوكّلًا، وابذل لهم من العناية ما تقدر عليه.
بل إن موسى والخضر -عليهما السلام- لما أقاما الجدار للطفلين اليتيمين، والذي كان تحته كنز لهما، لم يكن ذلك استثمارًا ماديًّا فحسب؛ بل كان استثمارًا إيمانيًّا من أبيهما الصالح: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَـٰلِحًۭا﴾ [الكهف: 82]. فصلاح الأب هو الكنز الحقيقي، أما المال فهو خادمه.
هل التخطيط للمستقبل ينافي التوكل؟
أبدًا؛ بل التوكل الحقيقي لا يتمُّ إلا بالتخطيط، والعمل، والأخذ بالأسباب. فمن ظنَّ أن التوكل ترك للأسباب، فقد أساء الظنَّ بالله. قال النبي ﷺ: «لَوْ أنَّكم توَكَّلتم على اللهِ حقَّ توَكُّلِهِ، لرزقَكم كما يرزقُ الطَّيرَ، تغدو خماصًا، وتروحُ بطانًا» [رواه ابن ماجة]. تأمَّل: تغدو، أي: تخرج وتتحرك وتسعى.
وقد كان رسول الله ﷺ يُخطّط لحياته، ويُعدُّ للمعارك، ويبني المسجد، ويزرع النخل، ويُوصي أصحابه بالزواج والعمل والتجارة، وهو مع ذلك أزهدُ الناس في الدنيا.
ما الفرق بين الأمل المشروع وطول الأمل المذموم؟
الأمل المشروع هو أن تسعى، وتخطط، وتعمل، وأنت تعلم أن الدنيا مجرد ممر، وأنك قد تغادرها في أي لحظة، فيكون لسان حالك: «اللهم إن عشتُ فاجعل حياتي طاعة، وإن مِتُّ فاختم لي بالحسنى».
أما طُول الأمل المذموم، فهو أن تعيش وكأنك باقٍ أبدًا، فتؤجل التوبة، وتنسى المحاسبة، وتغفل عن الصلاة والقرآن وسائر العبادات، وتغرق في تفاصيل الدنيا بلا إحساسٍ بالآخرة.
فالتخطيط لا ينافي الإيمان، ما دام قلبك معلَّقًا بالله، ونيتك خالصة، ونفسك ذاكرة للموت والبعث واللقاء.
كيف تحقق التوازن بين الدنيا والآخرة؟
هذه بعض الوصايا التي تُعينك –بإذن الله– على تحقيق هذا التوازن:
1- جدّد النية في كل عمل دنيوي. قل في قلبك: «أخطط لأولادي لأنهم أمانة، ولأني أُحب أن أترك لهم ما يُغنيهم عن سؤال الناس».
2- اجعل لك وردًا يوميًّا من تذكُّر الموت، ودخول القبر، والحساب بين يدي الله، دون أن يعطلك هذا عن أعمالك اليومية وسعيك لتحصيل الرزق.
3- لا تجعل ساعة عملٍ تمر دون نية، ودون ذِكر لله، واستشعر أنك في عبادة تؤجر عليها من الله.
4- علِّم أولادك أن الزهد الحقيقي ليس في ترك الدنيا ومتعها، وإنما في أن تكون الدنيا ومتعها في أيديهم، لا في قلوبهم. قل لهم: «الدنيا ميدان عمل، لا دار بقاء».
5- لا تؤخِّر التوبة من ذنب صغير أو كبير، فلو أنك متَّ اليوم، ورث منك أولادك تقوى وصلاحًا، وذاك أعظم من عقاراتٍ تتهالك، وأموالٍ تنفد.
وختامًا -أخي الكريم- إن أعظم أمل ينبغي أن نُطيله هو الأمل في الله، والأمل في رحمته، والأمل في أن نلقاه وقد اجتهدنا في إحسان عبادتنا له سبحانه. وإن أعظم مشروعٍ تورثه أولادك هو أن يعرفوا ربَّهم من خلالك، ويروا فيك المثال والقدوة الصالحة.
أسأل الله أن يُطمئن قلبك، ويشرح صدرك، ويرزقك التوازن في دينك ودنياك، وأن يُخرج من صلبك ذريةً طيبة، يُصلح الله بها البلاد والعباد. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.