Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. فتحي عبد الستار
  • القسم : إيمانية
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 140
  • رقم الاستشارة : 1574
11/04/2025

أنا شاب لديَّ مجموعة من الأصدقاء أعرفهم منذ سنوات، كبرنا معًا، وتعلق قلبي بهم، لكن في الفترة الأخيرة بدأت أشعر بثقل داخلي كلما خرجت معهم. يجتمعون مرة في الأسبوع، يشربون الشيشة، ويغنّون، ويلعبون الورق، أحيانًا تصاحب جلستهم موسيقى، وأنا –واللهِ– لا أدخن، ولا أسمع الموسيقى، ولا أشاركهم هذه الأمور. أجلس بصمت، أراقب، وأحاول ألا أنجرف معهم. نصحتهم أكثر من مرة، تكلمت بالحسنى، وذكّرتهم بالله، لكنهم غضبوا، وقاطعوني، وبعضهم جرحني بكلامه.

مرت أيام ثقيلة، شعرت بالوحدة، بالخذلان، بالبرد العاطفي، فهؤلاء هم أحبتي. ضعفت، وعدت إليهم، ولكن بشرطهم: أن أسكت، لا أنصح، لا أُذكِّر، فقط أجلس كأن شيئًا لا يحدث.

فهل أنا آثم لجلوسي معهم؟

هل أنا أشاركهم الإثم بصمتي؟

هل أنا خائن لنفسي ولديني حين أخاف أن أفقدهم أكثر من خوفي من غضب الله؟

أم أنني معذور، لأنني لا أشاركهم ولا أؤيدهم، فقط أحنّ إليهم ولا أطيق وحدتي؟

دلُّوني، فقد تعبت من الصراع بين القلب والدين.

الإجابة 11/04/2025

مرحبًا بك أيها السائل الكريم، وأهلاً وسهلاً بك بيننا، وشكرًا لك من القلب على هذه الثقة الغالية التي منحتنا إياها بمشاركتك هذا السؤال النابع من روحٍ يقظة، ونفسٍ تصارع لتظل قريبة من الله، نقيَّة من شوائب المعصية، رغم الحنين للصحبة والضعف والتعب.

 

نسأل الله العظيم، رب العرش الكريم، أن يربط على قلبك، ويثبتك على الحق، ويؤنسك بطاعته، ويبدلك صحبةً صالحةً ترفعك لا تجرُّك، وتكون لك نورًا في الدنيا وسندًا في الآخرة.

 

إنه لصراع نبيل

 

ما أجمل هذا الصراع الذي وصفته! نعم، إنه مؤلم، مرهق، لكنه علامة حياة. فإن قلوب الغافلين لا تتألم لمخالفة الله، أما قلبك فهو يتألم، ويحزن، ويشكو، وهذا والله دليل صدق، ودليل محبة لله، فالحمد لله الذي جعل لك في قلبك نورًا يميز به الخير من الشر، والهدى من الغواية، والوفاء لله من الوفاء للعِشرة.

 

ولنبدأ الآن في تناول أسئلتك واحدًا واحدًا، بعون الله وتوفيقه، مستضيئين بنور الوحي، مستأنسين بحديث النبي ﷺ، وبتجارب المحبين لله.

 

هل تأثم لجلوسك معهم؟

 

الأصل في الجلوس في مجالس فيها منكر ظاهر لا يجوز، ما دام المسلم قادرًا على الإنكار ولم يفعل، أو رضي بما يحدث. قال الله تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ﴾ [النساء: 140].

 

وقد علَّق الإمام القرطبي على هذه الآية بقوله: «دلَّت الآية على وجوب اجتناب أهل المعاصي إذا ظهر منهم منكر؛ لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالمعصية معصية».

 

فجلوسك معهم بغير إنكار يعرِّضك للإثم، ليس لأنك شاركت بنفسك، ولكن لأن القلب إذا رضي أو سكت وهو قادر على إنطاق اللسان، فقد ضعف إيمانه.

 

وقد قال النبي ﷺ: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» [رواه مسلم].

 

فإن كنت قادرًا على النصح ولم تفعل، ورضيت بمجالسهم، فقد تدخل في دائرة الإثم من هذا الباب. أمَّا إن كنت حاضرًا بقلبٍ كاره، وبدنٍ مضطر، ولسانٍ مكموم، ولا تجد بديلًا أو مؤنسًا سواهم، مع مجاهدة نفسية داخلية، فهنا لا نحكم عليك بالإثم، لكننا نقول: أنت في خطر؛ فالنار لا تترك من اقترب منها، ولو لم يضع فيها حطبًا!

 

هل تشاركهم الإثم بصمتك؟

 

نعم، إنَّ الصمت مع الرضا مشاركة في الإثم. أما الصمت مع الكراهية، ومع محاولة ترك المجلس، ومع نصح سابق لم يُقبل منك، فقد يجعلك معذورًا عند الله.

 

لكن لاحظ قولك: «وعدت إليهم، ولكن بشرطهم: أن أسكت، لا أنصح، لا أُذكِّر، فقط أجلس كأن شيئًا لا يحدث»، وهذا شرط خطير؛ لأنه يعني تعليق إيمانك ومروءتك على إذنٍ منهم! وهذا ما يُخشى أن يكون نوعًا من المداهنة في الدين، وقد قال الله عن أهل الحق: ﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ [القلم: 9]، أي: يتمنون لو تلين معهم فتوافقهم على باطلهم، ولو بسكوت أو مجاملة. والمسلم الحق لا يُجامل في الحلال والحرام، وإن كان الإسلام يوصي بالرفق واللين.

 

هل أنت خائن لنفسك ولدينك حين تخاف من فقدهم أكثر من خوفك من غضب الله؟

 

من طبيعة القلب أن يُحب، وأن يتعلَّق، وأن يخاف الوحدة، ولكن ليس له أن يُقدِّم أحدًا على الله!

 

تأمّل قوله تعالى: ﴿قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وأَبْنَاؤُكُمْ وإخْوَانُكُمْ وأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا ومَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 24]. فكيف بالصحبة التي لا تصلك بالله، بل تقطعك عنه؟

 

وتأمل توجيهه سبحانه وتعالى: ﴿واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وجْهَهُ ولا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا ولا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتَّبَعَ هَوَاهُ وكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28].

 

وقد قال النبي ﷺ: «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يُخالل» [رواه أبو داود والترمذي].

 

أنت صادق حين قلت: «أحن إليهم»؛ لكن تأمَّل: أيُّ حنين هذا الذي يخدش صفاء قلبك، ويهزُّ ثباتك، ويمنعك من أن تقول كلمة حق؟

 

هل أنت معذور بعدم مشاركتهم ولا تأييدهم لكن تحن إليهم فقط؟

 

لست آثمًا بالحنين، فالقلوب لا تُؤاخذ على خواطرها، إنما المؤاخذة على الأفعال والنيات. لكنك لست معذورًا تمامًا حين تختار الصحبة الفاسدة على حساب دينك. تأمَّل بشارة الله: ﴿وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا﴾ [الطلاق: 2]، فثق بأن الله لن يتركك، إن فارقتَ من يُبعدك عنه. وقال رسول الله ﷺ: «من ترك شيئًا لله، عوَّضه الله خيرًا منه» [رواه أحمد].

 

وختامًا أخي الحبيب، إن طريق الإيمان شاق أحيانًا، لكنَّه منير، ويكفيك أن تعرف أن كل دمعةٍ تذرفها في وحدتك، وكل تنهيدة تُطلقها وأنت تقاوم شوقك لمن يبعدونك عن الله، هي عند الله مدَّخرة، محسوبة، محبوبة.

 

ابكِ، وتألّم، لكن لا تتنازل، اصبر، واحتسب، واطلب من الله صحبةً تُقرّبك إليه. وسيأتي يوم تنظر فيه خلفك، فتبكي شكرًا أنك اخترت الله.

 

والنبي ﷺ قال: «المرء يُحشر مع من أحب» [رواه البخاري]، فافعل ما يجعلك تُحشر مع النبي، لا مع أهل اللهو الحرام والمعاصي.

 

أسأل الله أن يبدلك بأصحابك إخوةً في الله، يحبونك ويقوُّونك، وأن يُنير لك دربك، ويكتبك من الصادقين الثابتين، وأن يملأ وحدتك بأنس القرب منه سبحانه.

 

ونحن هنا دومًا معك، إن أردت أن تكتب، أو تسأل، أو تبوح، فتابعنا بأخبارك.

الرابط المختصر :