هل التشتت أكبر أمراض العقل المعاصر؟

Consultation Image

الإستشارة
  • المستشار : أ. مصطفى عاشور
  • القسم : فكر معاصر
  • التقييم :
  • عدد المشاهدات : eye 49
  • رقم الاستشارة : 3455
02/12/2025

قرات منشورًا للداعية والمهندس اليمني محمد المقرمي يقول فيه إن أكبر علة أو مرض مصاب به العقل المعاصر هو التشتت.. فهل لكم أن توضحوا لنا ما المقصود بتشتت العقل؟

الإجابة 02/12/2025

أخي الكريم، في البداية رحم الله المهندس اليمني "محمد المقرمي" ذلك الرجل الذي عاش مع القرآن الكريم بروحه وعقله، ساعيًا أن يكون القرآن الكريم هو الذي يشكل تصورات المسلم للحياة، وأن ينطلق المسلم من القرآن وبالقرآن الكريم إلى العالم من حوله.

 

في أحاديثه أكد الشيخ "المقرمي" أن إحدى أكبر علل العقل المعاصر هي "التشتت"، وهي قراءة عميقة لإحدى أزمات هذا الإنسان المعاصر الذي أصبح تفكيره ماديًّا حتى وإن كان يقف على أرضية دينية، وهذه المادية سبب في تعلق الإنسان بالأشياء والزينة، ومع التعلق والتمني تتنازع العقل الأهواء والرغبات، فينمو التشتت تدريجيًّا بحيث يصعب على الإنسان التخلص من آثاره المدمرة نفسيًّا وعقليًّا.

 

التشتت أزمة العصر

 

الكاتب الأمريكي المختص في العلاقة بين الثقافة والتقنية "نيكولاس كار "حذر قبل قرابة الخمسة عشر عامًا، من تأثير تقنيات الرقمية على الدماغ الإنساني في كتابه "السطحيون: ما الذي تفعله الإنترنت بأدمغتنا" وقال: "إننا عندما نبدأ في استخدام الويب كبديل للذاكرة الشخصية، فإننا نجازف بإفراغ عقولنا من ثرواتها"، جزء من تشتت العقل المعاصر يكمن في حجبه وتقييده عن القيام بوظائفه الكبرى والأساسية، فعندما يخضع العقل للآلة فإنه يتحرك بمنطقها الآلي الخالي من العواطف والمشاعر، فالآلة كما يقولون "ذات قلب حديدي"، وهذا القلب لا يتأثر إلا بالطَرْق أو الحرارة.

 

أدرك علماء النفس أن الرقمية سبب في إصابة العقل بالكسل والخمول وضعف الإدراك نظرًا لكثافة ما يُلقى على العقل من مواد أكثرها رديء وقائم على تغذية النزعة الاستهلاكية ومخاطبة الغرائز والملذات، وهو ما يشتت العقل، في كتابه "العقل المشتت" نجد أحد مؤلفي الكتاب وهو عالم النفس الأمريكي "لا روزين " يطلق دعوة للفطام عن الرقمية.

 

في هذا الكتاب المهم أكد المؤلفون أن قدرة أدمغتنا على التركيز محدودة، فنحن لا نؤدي مهام متعددة في الوقت نفسه، بل ننتقل بينها بسرعة، وتعارض عوامل التشتيت والمقاطعات، التي غالبًا ما تكون مرتبطة بالتكنولوجيا - والتي يُطلق عليها المؤلفون اسم "التداخل" يحد من قدراتنا على تحديد الأهداف، ويشغب على التفكير.

 

ضرب الكتاب أمثلة كثيرة، منها تركيز العقل في قضية ما ثم تطرأ عليه فكرة متابعة حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، أو التجاوب مع إشعارات بريده الإلكتروني، فتراه يترك ما هو عليه من تفكير ثم ينصرف إلى الفضاء الرقمي الذي يتنقل به بين الصورة والتعليق والتفاعل والفيديو.

 

في دراسة علمية بعنوان "لماذا تشتت وسائل التواصل الاجتماعي انتباهنا؟" نشرت عام 2021م، تؤكد أن وسائل التواصل الاجتماعي مصدر رئيسي للتشتت لأسباب متعددة، منها أن الإنسان يمكن أن يبقى على اتصال دائم بالإنترنت طيلة 24 ساعة، وهذا يؤدي إلى تشتته، كما أن سهولة الوصول لمواقع التواصل الاجتماعي عبر الهواتف المحمولة، شتت انتباه الأفراد بشكل متكرر ودائم.

 

يشير بعض علماء النفس إلى أن فشل الشخص في ضبط استخدامه لمواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت، من الأسباب التي تعمق تشتت العقل، هذا الفشل يقود إلى استخدام أكثر لمواقع التواصل الاجتماعي، فيزداد التشتت، وهكذا يدخل العقل في حلقة مفرغة.

 

الحياة المعاصرة معقدة للغاية، وهذا من العوامل الرئيسية في تشتت العقل، وهو ما أكدته الدراسات النفسية التي خلص بعضها إلى أن الأشخاص الذين يقومون بمهام متعددة يكونون أكثر عرضة للتشتت، وقد يواجهون صعوبة في تركيز انتباههم حتى عندما لا يعملون على مهام متعددة في وقت واحد.

 

ومعنى هذا أن المؤثرات المتسببة في التشتت إذا توقفت بعد فترة من الانتظام والتكرار، فإن العقل قد يجد صعوبة في العودة إلى حالته الطبيعية مرة أخرى.

 

تأثير التشتت على العقل

 

التشتت في اللغة يعني التفرق والانفصال أو التفرق والانتشار والبعثرة، ومن ثم يجب ألا نقلل من الآثار السلبية للتشتت على العقل؛ لأن التشتت يؤدي لمحدودية قدرات العقل في معالجة المعلومات، ويضعف قدرته على تحقيق أهدافه.

 

التشتت كما تشير دراسات علم النفس سبب في عدم التركيز والتوتر والقلق، وأن العقل يستغرق قربة الـ(25) دقيقة حتى يعود لوضعه الطبيعي في التفكير إذا تعرض للتشتت، وفي دراسة لعلماء الأعصاب في جامعة "ميلانو" الإيطالية تتبعوا خلالها الإشارات العصبية التي يصدرها الدماغ عندما ينحرف مسار الاهتمام فجأة بتشتيت مفاجئ، فوجدوا أن الدماغ يغير اتجاهه، ويستلزم العودة لوضعه الطبيعي وقتًا.

 

التشتت يعيق عملية التعلم، فالبيئات المشتتة يضعف فيها التركيز، وتنتشر فيها صعوبات التعلم، كما أن عملية التعلم نفسها تكون ناقصة وغير مكتملة.

 

وقد يكون من المهم هنا ذكر دعاء ورد عن النبي كان يدعو به عشية يوم عرفة، فكان يقول: "اللهم اشرح لي صدري ويسر لي أمري، وأعوذ بك من وسواس الصدر وشتات الأمر"، وكان يذكر أن هذا من أكثر ما يدعو به الأنبياء ربهم.

 

كما أن حالة الفقر تورث التشتت للعقل، ويشبهها اللهاث وراء الدنيا والمال، يقول ابن الجوزي في "صيد الخاطر": "فإنه متى سمت همته (أي الشخص) إلى فضول المال وقع المحذور من التشتت؛ لأن التشتت في الأول للعدم (أي في حال الفقر)، وهذا التشتت (أي في حال الغنى) يكون للحرص على الفضول".

 

روابط ذات صلة:

ما علاقة العقل بصناعة الأمنيات؟

لماذا يقبل العقل الخرافات؟

هل عقولنا قادرة على إلهامنا الأمل؟

ثقافة التساؤل ودورها في بناء العقل

هل تحتاج عقولنا إلى قيمة الرضا؟

هل العقل قاصر عن تفسير حقائق الكون؟

الرابط المختصر :