الإستشارة - المستشار : أ. مصطفى عاشور
- القسم : قضايا إنسانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
156 - رقم الاستشارة : 2361
12/08/2025
في ظل هذا الجو الذي يغلفه الإحباط والعجز والقهر مما يجري في غزة من أهوال وفظائع، هل الأفكار والعقل قادر على إلهامنا الأمل أم أن الأمل مرتبط فقط بعالم الأسباب والقوة؟
أشكركم -أخي الكريم- على هذا السؤال الذي يتناول أهم قضية تشغل العالم حاليًا، وهي الإبادة الجماعية التي تجري في غزة، والثبات والثقة التي يبديها أهل غزة في مواجهة آلة القمع الصهيونية المدعومة من كثير من القوى الغربية.
وسؤالكم ربما يقتطف حجة من قال: إذا كان كل هذا الدمار في غزة هو انتصار، فكيف تكون الهزيمة؟
الحقيقة أن اختبار صحة المقولة السابقة لا نأخذه من دمار غزة، ولكن من قراءة تاريخ حركات التحرير الوطني، التي عانت مثلما عانى الأحرار في غزة، وتم التشكيك في جدوى مقاومتها، كما يحدث الآن في غزة، وتم تسفيه تضحياتها كما يجري الآن، كما عانت الخذلان كما تعانيه غزة الآن.
وحتى لا نكون حالمين ونتحدث بعيدًا عن الواقع، دعنا نناقش قدرة الأمل على تحقيق الإنجاز والصمود والتحرير، وهذا الأمل هو ما تعتصم به غزة حتى الآن.
في البداية، يجب النظر إلى الأمل على أنه في حد ذاته هو فعل مقاوم، والمقاومة في حقيقتها هي مبدأ، والأمل هو رهان على المستقبل، والأمل في هذه الحالة هو العزيمة والإصرار على العيش في المستقبل بحرية وكرامة، والخروج من حالة الظلم والقهر والاحتلال نحو رحابة الحرية، ومن ثم فالأمل هنا هو صخرة تواجه روح الهيمنة والاستغلال، فيصير بذلك قوة لا زيف.
الحقيقة الثانية: أن الأمل في ذاته هو روح وطاقة، لكن لا أمل بلا نضال ولا نضال بلا تضحيات، وعلى قدر الأمل يكون النضال والتضحية، وفي حالة غزة فإنها تواجه المشروع الاستعماري الصهيوني، المدعوم من الاستعمار الرأسمالي الغربي التقليدي، ومن ثم فهي تواجه قوة طاغية باغية قوية للغاية وليس مشروعًا هشًّا.
الحقيقة الثالثة: للرد على سؤالكم ضرورة عقد مقارنة بين مفهوم الأمل في الرؤية المادية والمفهوم في رؤية حركات التحرير، خاصة إذا كانت تلك الحركات ذات أساس ديني كغالبية حركات المقاومة الفلسطينية.
فالرؤية المادية للأمل تربط بين الأمل والإنجاز وتحقيق نتائج فورية ومكاسب واضحة، لكن حركات المقاومة تغترف من معين آخر هو معين القيم والحرية والعدالة والكرامة، وهنا يكون الإنجاز، إما بتحقيق تلك الغاية أو الموت في سبيلها، ولعل هذا الإيمان هو ما يمنح حركة المقاومة قوة وعزيمة وإصرارًا على المضي في طريقها، ولذلك كان الأديب فيكتور هوجو يقول: "أكبر القتلة هو: قاتل الأمل".
الحقيقة الرابعة: أن البديل لغياب الأمل هو الإحباط واليأس وأن تذهب الأرواح بلا أي ثمن أو هدف نبيل، ونشير هنا إلى ما أورده المؤرخ الكبير "ابن الأثير" في موسوعته "الكامل في التاريخ" وقد عاصر الحملة التترية المغولية على ديار الإسلام، والروح المعنوية المتلاشية في المقاومة، وحالة غياب الأمل التي أمسكت بأرواح الناس وأجبرتهم على أن يسلموا أعناقهم لسيوف التتار بلا أدنى مقاومة سوى الاستعطاف الرديء.
أورد ابن الأثير في وقائع سنة (628 هـ) عددًا من الأحداث والحكايات التي تكشف أن اليأس والإحباط كان هو باب الهزيمة والقتل والفناء، ومما ذكره من حكايات قوله: "ولقد حكي لي عنهم حكايات يكاد سامعها يكذب بها من الخوف الذي ألقى الله -سبحانه وتعالى- في قلوب الناس منهم، حتى قيل: إن الرجل الواحد منهم كان يدخل القرية أو الدرب وبه جمع كثير من الناس، فلا يزال يقتلهم واحدًا بعد واحد، لا يتجاسر أحد أن يمد يده إلى ذلك الفارس".
فيقول أيضًا: "وحكى لي رجل قال: كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلاً في طريق، فجاءنا فارس، من التتر، وقال لنا حتى يكتف بعضنا بعضًا، فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم، فقلت لهم: هذا واحد فلِمَ لا نقتله ونهرب؟ فقالوا: نخاف. فقلت: هذا يريد قتلكم الساعة، فنحن نقتله، فلعل الله يخلصنا، فوالله ما جسر أحد أن يفعل، فأخذت سكينا وقتلته وهربنا فنجونا، وأمثال هذا كثير".
وأخيرًا -أخي الكريم- تدبر ما قاله "الماوردي" في كتابه "الأحكام السلطانية" عن أهمية الأمل في الإصلاح، فذكر أن صلاح الدنيا يتلخص في ستة أشياء، هي: الدين المتبع، والسلطان القاهر، والعدل الشامل، والأمن العام، والخصب الدائم، والأمل الفسيح.
وفي الأثر: "لَوْلا الأَمَلُ مَا أَرْضَعَتْ أُمٌّ وَلَدًا، وَلا غَرَسَ غَارِسٌ شَجَرًا"، وكما يقول صاحب الظلال: "والذي ييأس من النصر يفقد كل نافذة مضيئة، وكل نسمة رخية، وكل رجاء في الفرج، ويستبد به الضيق، ويثقل على صدره الكرب، فيزيد هذا كله من وقع الكرب والبلاء.. وكل حركة يائسة لا ثمرة لها ولا نتيجة إلا زيادة الكرب، ومضاعفة الشعور به".