التزكية من المفاهيم المركزية في الرؤية الحضارية الإسلامية، تلك الرؤية التي تتأسس على ثلاث قيم أساسية كبرى، هي: التوحيد لله سبحانه وتعالى، والتزكية لإمداد الإنسان بالأخلاق الصالحة التي تمكنه من تحقيق الاستخلاف في الكون، والعمران وهو التجلي المادي الحضاري لقيمتي التوحيد والتزكية.

التزكية مسؤولية الإنسان

التزكية موضوعها الأساسي الإنسان، باطنه في نقاء القلب وطهارته من الأمراض كالأحقاد والحسد والرياء، وظاهره في التمسك بفضائل الأخلاق والخير، وكما يصفها بعض علماء الأخلاق بأنها "تطهر وتخلق وتعلق"، ونظرًا لأهميتها فقد وردت في القرآن الكريم (59) مرة، حيث تشير الكثير من الآيات إلى مسؤولية الإنسان عن تزكية نفسه، وأن الجزاء هو الفلاح في الدنيا والآخرة.

والحقيقة أن الإنسان، قبل تفشي الفكر المادي الحداثي، كان باطنه يشعر بالحاجة إلى الخالق سبحانه وتعالى، والافتقار إليه في مواجهة المجهول الذي يملأ الحياة، وهذا ما كان يجعل فكرة التزكية ونظر الإنسان إلى باطنه لإصلاح الخلل فيها، أمرًا متكرر الحدوث، أما الإنسان الذي أمده العلم والتكنولوجيا ببعض القوة والمعرفة، ظن أنه في غير حاجة إلى الخالق سبحانه وتعالى؛ لذا أهمل النظر إلى باطنه، ويكاد نظره يقتصر على ما في يديه وما يمتلكه، ولعل هذا ما جعل قيمة التزكية تتراجع في العصر الحديث، فكانت المعاناة كبيرة لهذا الإنسان.

ولو قارنا بين إنفاق الإنسان المعاصر على الجوانب المادية وإنفاقه على ما يزكّي به نفسه لأدركنا حجم الأزمة الحضارية؛ فمثلاً وصل الإنفاق على السلاح منذ عامين حوالي (1981) مليار دولار، وعلى مستحضرات التجميل (262) مليار دولار وعلى الرياضة (512) مليار دولار، لكن ذلك لم يحقق الطمأنينة والراحة والسكينة

أما الرؤية الإسلامية فتجعل التزكية ركنًا أساسيًّا في بنائها الحضاري؛ لأن النفس الخاوية مدمرة لكل شيء خاصة إذا امتلكت السلاح والمال والقوة، نظرًا لأنه لا يمنعها أية ضوابط تضع لجامًا على قوتها المفرطة، ولذا كانت التزكية لا تقل عن العمران وتشييد البناء المادي في الحضارة الإسلامية.

وهنا نتذكر نصيحة حكيم الهند الكبير "محمد إقبال" بأن يُنتزع السيف من قبضة قاطع الطريق، ومقاومة الحكمة الفرعونية التي تقوم على تخريب الروح وإعمار الجسد.

تمتاز منظومة الأخلاق في الإسلام بأن لها ثلاثة أبعاد: نفسي، يتعلق بعلاقة الإنسان التعبدية بربه، واجتماعي يتعلق بعلاقته مع المجتمع، وبُعد ميتافيزيقي يتعلق بالمثُل والمبادئ التي يعتنقها الفرد، وقد احتل القلب مكانته في الرؤية التزكوية في الإسلام، فهو موضع الذكر والإيمان وكذلك مكان الشهوة والشبهة، ومحل التجاذب الدائم بين الخير والشر.

القيم الروحية في الإسلام ترجع إلى العقيدة، في مقدمتها الإيمان بالله واليوم الآخر، أما العبادات فجوهرها تكليف لضمير الإنسان، وهو ما يقنع النفس الإنسانية أنها تحت رقابة دائمة من خالقها، وعندها يُوقظ ضميره، وليصبح حاكما لأفعاله وفق معايير بثها الدين في أعماقه، فالإسلام ليس فلسفة عقلية ولكنه نهج حياة.

فالكون محراب المؤمن إذا أحسن النية وأخلصها، والعبادة طريق للتزكية، وسبيل للتضامن الاجتماعي، وما دام المؤمن يحمل الإيمان يجب أن يتجلى في سلوكه وتعامله، ومن ثم فالقيم الروحية تُلهم العقل وتهديه، وهذا ما يجسده محمد إقبال بقوله: "الشرع ينهض من أعماق الحياة، وإذا أردتَ أن ترى أعماق الدِّين واضحة، فلا تنظر إليه إلا مِن أعماق الضَّمير، وإن لم تَفْعل، فدينُك هو الجَبْر، ومثل هذا الدِّين لا يرضاه الله".

وأول مداخل تزكية النفس في الرؤية الحضارية، هي عقيدة التوحيد، والتي تجعل الروح تطوف حول مركز واحد، بلا تشتت ولا زيغ؛ فالشرك والكفر عقبة كؤود أمام التزكية طوال تاريخ الإنسان، ويعلل ذلك الشيخ محمد عبده في تفسيره "المنار"، بقوله: "أما الحكمة في عدم مغفرة الشرك، فهي أن الدين إنما شُرع لتزكية نفوس الناس وتطهير أرواحهم وترقية عقولهم، والشرك هو منتهى ما تهبط إليه عقول البشر وأفكارهم ونفوسهم، ومنه تتولد جميع الرذائل والخسائس التي تفسد البشر في أفرادهم وجمعياتهم"، ويرى الشيخ محمد عبده أن تزكية الأنفس لا تتم إلا بتزكية العقل، ولا تتم تزكية العقل إلا بالتوحيد الخالص.

ويرى الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن أن التزكية تحقق التوازن والاعتدال بين عالم الروح وعالم المادة، كما أنها عملية طوعية، فلا إكراه في التزكية وهو ما يجعل إرادة الإنسان وقوته النفسية حاضرة؛ بل وناجزة في القيام بالعملية التزكوية.

ولهذا كانت العبادة أمرًا مهمًّا في التزكية؛ إذ إنها تنهض بالعبء التزكوي القائم على التدرج والاختيار، ومن تلك العبادات الصيام.