الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : دعوية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
60 - رقم الاستشارة : 1453
27/03/2025
أنا شاب أحب الدعوة إلى الله، وأحرص على طلب العلم الشرعي والاطلاع على كتب الفقه والتفسير والعقيدة، لكنني أشعر أحيانًا أنني بعيد عن واقع الناس ومشكلاتهم الحياتية.
فكيف يمكنني تحقيق التوازن بين طلب العلم الشرعي والانخراط في واقع الناس؟
وما أهمية معرفة الداعية بالأوضاع الاجتماعية والفكرية المحيطة به؟
وما الوسائل التي تساعدني على فهم المجتمع والتواصل مع الناس بفعالية دون أن يؤثر ذلك على ثباتي على المنهج الصحيح؟
أخي الكريم، مرحبًا بك، وبارك الله فيك، وفي اهتمامك بالدعوة وطلب العلم، فهذه من أجلِّ النعم التي يمنُّ الله بها على عباده، فقد شرف الله هذه الأمة بحمل رسالة الإسلام، وجعل الدعوة إليها من أشرف الأعمال، فقال تعالى:
﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: 33]، وقال رسوله ﷺ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» [متفق عليه]. أسأل الله أن يرزقك العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يجعل دعوتك سببًا في هداية القلوب، ونورًا لك في الدنيا والآخرة، وبعد...
فالدعوة ليست مجرد كلمات تُقال، أو دروس تُلقى، بل هي فن مخاطبة العقول والقلوب، وهي تتطلب فهمًا عميقًا للشرع، ووعيًا بالواقع الذي يعيش فيه الناس. وقد كان النبي ﷺ أعظم قدوة في ذلك؛ حيث جمع بين العلم الشرعي العميق، والتفاعل الحي مع الناس في حياتهم اليومية، فكان يزورهم، يسأل عن أحوالهم، ويشاركهم أفراحهم وأحزانهم، ويعالج مشكلاتهم بحكمة ورحمة.
كيف يحقق الداعية التوازن بين طلب العلم والانخراط في واقع الناس؟
إن تحقيق التوازن بين طلب العلم الشرعي والانخراط في حياة الناس يتطلب الجمع بين الثبات على المنهج الصحيح، والمرونة في التعامل مع الواقع. ويمكنك تحقيق ذلك من خلال ما يلي:
1- إخلاص النية لله والتوكل عليه:
اجعل نيتك في طلب العلم والدعوة خالصة لله، وكن على يقين بأن الدعوة توفيق من الله قبل أن تكون مهارة مكتسبة، قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: 282].
2- توسيع دائرة الفهم والاستيعاب:
لا تكتفِ بالعلوم الشرعية وحدها، بل احرص على فهم طبيعة المجتمع الذي تعيش فيه، وادرس الظروف الاجتماعية والاقتصادية والفكرية التي تؤثر على الناس.
3- المشاركة الفعلية في حياة الناس:
كن قريبًا من الناس، شاركهم مناسباتهم، تفقد أحوالهم، استمع إلى همومهم، وكن جزءًا من حياتهم. وقد كان النبي ﷺ يزور أصحابه في بيوتهم، ويجلس معهم في الأسواق، ويسأل عن المريض، ويواسي الحزين.
4- المرونة دون تفريط في الثوابت:
إن الداعية الناجح هو الذي يجمع بين الثبات على المبادئ والمرونة في الأسلوب، فيكون حكيمًا في التعامل مع الناس، مدركًا لأحوالهم، لكنه في الوقت ذاته لا يساوم على ثوابت الدين.
فالانخراط في المجتمع لا يعني أن يذوب الداعية في عادات الناس المخالفة للشرع، أو أن يسكت عن المنكرات إرضاءً لهم، بل عليه أن يوازن بين اللين في الأسلوب والحزم في الحق، اقتداءً بالنبي ﷺ الذي كان أرفق الناس وأحكمهم، لكنه لم يكن يتهاون في أمر الدين.
ومن الحكمة ألا تصادم العادات إلا عند الضرورة، متبعًا التدرج والحكمة، وأن تفرق بين الوسائل والمقاصد، فالثوابت الشرعية لا تتغير، لكن أساليب الدعوة يمكن أن تتنوع وتتكيف مع العصر والمكان.
5- التدرج ومراعاة الأولويات:
الناس يختلفون في أفهامهم ومستوياتهم، فلا بد أن تتعامل مع كل فئة بما يناسبها. فعندما أرسل النبي ﷺ معاذًا إلى اليمن قال له: «إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى» [رواه البخاري]. وهذا يدل على أهمية مراعاة حال المخاطبين في ترتيب الأولويات والأساليب.
أهمية معرفة الداعية بالواقع المحيط به:
الداعية الذي لا يعرف مجتمعه قد يجد نفسه معزولًا وغير مؤثر؛ لأن الناس لن يتفاعلوا معه ما لم يشعروا بأنه يفهمهم ويعيش واقعهم. ومن فوائد معرفة الداعية بالواقع:
1- تقديم الحلول الواقعية لمشكلات الناس:
عندما يعرف الداعية ظروف الناس، يستطيع أن يخاطبهم بما يعالج مشكلاتهم الحقيقية، بدلاً من تقديم نصائح نظرية بعيدة عن واقعهم.
2- تجنب الصدام غير الضروري:
بعض القضايا تحتاج إلى حكمة في الطرح، وفهم لطبيعة المجتمع حتى لا يُستفز الناس أو يُنفَّروا من الحق.
كان النبي ﷺ يتعامل مع المواقف المختلفة بحكمة، كما في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، حيث لم يعامله النبي ﷺ بخشونة، بل علَّمه برفق، فقال: «لا تُزْرِمُوهُ، دَعُوهُ» ثُمَّ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ. [رواه البخاري]، وكذلك كما فعل ﷺ مع الشاب الذي جاء يطلب منه الإذن بالزنى، فأخذه بالرفق والإقناع، ووضع يده على صدره ودعا له.
3- مواكبة المستجدات الفكرية والتحديات المعاصرة:
هناك تيارات فكرية متعددة تؤثر على الناس، مثل الإلحاد والعلمانية، ولا بد للداعية أن يكون مطلعًا على هذه الأفكار حتى يتمكن من الرد عليها بالحكمة والبرهان.
وسائل تساعد على فهم المجتمع والتواصل الفعال:
1- القراءة والاطلاع المستمر:
قراءة الصحف والمجلات والتقارير الاجتماعية، ومتابعة قضايا المجتمع عبر وسائل الإعلام المختلفة.
2- حضور المجالس العامة:
اجلس مع الناس في الأسواق، والمساجد، واحضر مناسباتهم العامة، وشاركهم في الأنشطة المجتمعية والخيرية، مع الحفاظ على الضوابط الشرعية.
3- التواصل المباشر مع الفئات المختلفة:
تحدث مع الشباب وكبار السن، واستمع إلى تجاربهم. وزُر المؤسسات المختلفة، والتقِ بأصحاب الفكر المختلف، وتعرف على آرائهم.
4- الاستفادة من وسائل التواصل الحديثة:
استخدم منصات التواصل الاجتماعي، والإعلام الرقمي، لنشر الدعوة والتفاعل مع الناس.
5- الاقتداء بالدعاة الذين نجحوا في هذا المجال:
تابع العلماء والدعاة الذين يجمعون بين العلم والتفاعل مع المجتمع، وتعلم من تجاربهم.
وختامًا -أخي الكريم- فإن الدعوة ليست مجرد علم نظري، بل هي حياة وتفاعل وعمل، والداعية الناجح هو من يجمع بين عمق العلم، وحسن الفهم، وحكمة التعامل مع الناس.
وقد كان النبي ﷺ قدوة في هذا، فكان أكثر الناس علمًا، لكنه لم يكن حبيس مسجده، بل كان يعيش بين الناس، ويخاطبهم بلغتهم، ويعالج مشكلاتهم بحب ورحمة، كذلك قال -عز وجل- له ﷺ: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ولَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ واسْتَغْفِرْ لَهُمْ وشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159].
أسأل الله أن يرزقك التوفيق والسداد، وأن يجعل دعوتك مباركة، ويعينك على تحقيق التوازن بين العلم الشرعي والانخراط في واقع الناس، إنه ولي ذلك والقادر عليه.