الإستشارة - المستشار : د. أميمة السيد
- القسم : تربوية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
53 - رقم الاستشارة : 1781
28/04/2025
إزي حضرتك يا دكتورة أميمة،
أنا متابع لحضرتك من زمان وبصراحة بعتبرك أمي بعد وفاة والدتي الله يرحمها...
أنا شاب عندي ١٩ سنة، وأكبر إخواتي..
ماما توفيت من حوالي خمس سنين، وبعدها كنا إحنا وبابا عايشين مع بعض بنحاول نكمل حياتنا رغم الحزن اللي مكنش بيفارقنا.
من سنتين تقريبًا، بابا قرر يتجوز واحدة تانية.
أنا مقدر إنه محتاج حد معاه، ومش بلومه بصراحة، بس... مش قادر أبلع وجودها في حياتنا ولا في بيتنا.
كل مرة بشوفها بحس إني مخنوق، ومش قادر أتعامل معاها خالص، حتى لو حاولت تبين إنها طيبة أو كويسة.
بقيت حاسس إن البيت مبقاش بيتنا، ومبقتش مرتاح ولا مبسوط، ومعرفش أتصرف إزاي...
كمان بحس بتأنيب ضمير، إني يمكن بظلمها بمشاعري دي، بس مش قادر أتحكم في إحساسي...
أنا بحب بابا ومش عايز أزعله، وفي نفس الوقت مش قادر أعيش مرتاح وأنا شايفها قدامي كل يوم.
أنا فعلا محتاج نصيحة حضرتك يا دكتورة أميمة...
إزاي أتعامل مع الوضع ده؟
وهل ممكن أقبل وجودها في حياتنا؟
ولا أتصرف إزاي من غير ما أخسر بابا ومن غير ما أكون منافق في مشاعري؟
أرجوكِ ساعديني.
ابني الغالي،
كلماتك العذبة التي ملأتها بالحب والاحترام وصلت إلى قلبي، وأسأل الله أن أكون لك دومًا أمًّا بالدعاء والاهتمام، وألا يحرمك من نور البركة في حياتك.
بدايةً، رحم الله والدتك، وأود أن أحتوي ألمك وأعترف لك بحقك في مشاعرك، فأنت تمر بما يسمى في علم النفس بمتلازمة الولاء المتضارب وغير المستقر (Conflicted Loyalty Syndrome)، وهو شعور طبيعي عند الأبناء حينما يشعرون بالولاء العاطفي الشديد للوالد أو الوالدة الراحلة، مما يجعل تقبل وجود شخصية جديدة داخل الأسرة أمرًا بالغ الصعوبة.
ثانيًا: من المهم أن تدرك أن فقدان الأم -رحمها الله- قد خلّف داخلك ما يُعرف بـ"جرح الفقد" (Loss Grief Trauma)، وهو يحتاج إلى وقت وصبر حتى يلتئم، ولا عيب أبدًا في أن تشعر بهذه الحساسية تجاه أي تغيير يمس مكانتها في حياتك.
ثالثًا: دعني أوضح لك برفق أن وجود زوجة أبيك لا يعني أنها جاءت لتحل محل والدتك، بل هي إنسانة جديدة تسعى لأن تكون جزءًا من حياة أسرتك، وقد أراد والدك بذلك تحقيق قدر من "الاستقرار النفسي والاجتماعي" لنفسه وللبيت كله، وليس نكرانًا لذكريات والدتك الغالية.
رابعًا: في ديننا الحنيف، نجد توجيهًا ربانيًّا عظيمًا في التعامل مع الآخرين، فقد قال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}؛ فالكلمة الطيبة والسلوك الحسن لا يعنيان ذوبان المشاعر أو التنازل عن الحب القديم، بل يعنيان نبل الأخلاق وكمال الإيمان.
خامسًا: أنصحك بالتدرج العاطفي، أي ألا تُجبر نفسك على مشاعر لا تشعر بها، ولكن في ذات الوقت تعامل معها بالاحترام والمودة العامة دون الدخول في مشاعر مصطنعة. بمعنى أن تكن صادقًا مع نفسك، ولكن حكيمًا في سلوكك.
سادسًا، مارس ما يُعرف بمهارة "إعادة الإطار الذهني" (Cognitive Reframing)، وهي أن تحاول أن ترى الموقف من زاوية جديدة؛ أن تتخيل مثلاً، أن والدك وجد في هذه الزيجة عونًا على الوحدة والحياة، وأن هذا لا ينتقص من حبكم له أو حبكم لأمكم رحمها الله.
سابعًا: يمكنك أن تضع حدودًا نفسية مهذبة، فلا تضطر إلى علاقة عميقة لا ترغبها، وفي الوقت نفسه تحافظ على الاحترام واللباقة بما يحمي توازنك الداخلي وعلاقات الأسرة الطيبة.
ثامنًا: أذكّرك بما قاله رسول الله ﷺ: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"؛ فالشجاعة الحقيقية أن تضبط انفعالاتك وتحمي قلبك من البغضاء، وتبني موقفك على الحلم والحكمة.. وعليك بتفريغ طاقتك في رياضة تحبها.
تاسعًا: لا تتردد في الحديث مع والدك بحب وهدوء، أخبره عن مشاعرك دون لوم أو تجريح، بل بمحبة وصدق: أنك تحتاج إلى وقت للتكيف، وأنك تحترم قراره وتدعمه، لكنك فقط تتعامل مع مشاعر صعبة تحتاج إلى وقت ومساندة.
عاشرًا: ثق أن الزمن بإذن الله كفيل بأن يخفف من شعورك بالألم، وأن التكيف النفسي هو عملية تدريجية، تبدأ بالقبول العقلي ثم القبول الوجداني مع الوقت.
ثم مع هذا الشعور بالألم لا بد أن يخالجك الأمل مع العمل على أن تسعى لبناء ذاتك وحياة جديدة لك تستقل فيها مع زوجة لك قريبًا بإذن الله تعالى، فاسع لتحقيق ذلك؛ فالأيام تمضي سريعًا مع الصبر والجد والاحتساب.
* وهمسة خاصة لك ابني الغالي:
يا بني، كل مشاعرك مفهومة ومشروعة، ولكن أنت الآن في مرحلة "النضج الانفعالي" (Emotional Maturity)، وهي مرحلة تتطلب أن ترتقي فوق الألم، وتحول التجربة الصعبة إلى نقطة قوة تجعلك أكثر صلابة ورحمة في التعامل مع الدنيا.
اصبر، واستعن بالله، وادعُ لأمك بالرحمة في كل حين، وكن خير سند لوالدك، وكن رجلًا عزيز النفس، طيب القلب، كما كانت والدتك تحب أن تراك.
ثم ثق أنني بالفعل أُم أخرى لك، في أي وقت وأي رأي أو استشارة أو تعبير عن مشاعرك ستجدني معك ودومًا سأدعو لك إن شاء الله تعالى مع أبنائي.
حفظك الله يا بني، وأقر عينك بنجاحاتك، وأبدلك عن ألمك سكينة ورضا لا يفارقان قلبك أبدًا.