الإستشارة - المستشار : د. عادل عبد الله هندي
- القسم : دعوية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
18 - رقم الاستشارة : 1266
11/03/2025
أعمل إمامًا في أحد المساجد، وأحاول أن أؤدي دوري على أكمل وجه، لكني أشعر أحيانًا ببعض الغيرة عندما أرى أئمة آخرين ينجحون في جذب الناس إليهم، ويُقبل عليهم المصلون، ويُثنون عليهم كثيرًا، سواء بسبب جمال صوتهم، أو حسن أسلوبهم في الخطابة، أو تأثر الناس بصلاتهم ودعائهم.
أجد في نفسي شيئًا من الحزن، بل وأحيانًا أشعر أنني أقارن نفسي بهم وأتساءل: لماذا لا أحقق مثل هذا النجاح؟ هل هذا الشعور يدل على نقص في إخلاصي؟ كيف يمكنني أن أتغلب على هذه المشاعر وأوجه نفسـي للطريق الصحيح دون أن أُصاب بالإحباط أو أن أنشغل بالمنافسة مع الآخرين؟ أرشدوني، جزاكم الله خيرًا.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أخي إمام القبلة المبارك، أثمّن لك هذه الصـراحة مع نفسك، وهذه الرغبة الصادقة في تهذيب قلبك وإصلاح نيتك.
إن شعورك هذا لا يعني بالضـرورة أنك غير مخلص، لكنه مؤشر على حاجة النفس إلى التزكية والتذكير الدائم بهدفها الأسمى وهو رضا الله وحده، لا رضا الناس، ولذا دعني أصحبك في رحلة إيمانية وعملية للتعامل مع هذا الشعور بطريقة تجعله بابًا للرقي والتقرب إلى الله، بدلًا من أن يكون سببًا للضيق أو الحسد، وذلك على النحو التالي:
أولًا: افهم طبيعة الشعور.. ولا تجعله سلبيًا
الشعور بالغيرة أمرٌ فطري في النفس البشـرية، وقد يصيب حتى الصالحين، لكن الفرق بين الغيرة المحمودة والغيرة المذمومة هو في كيفية التعامل معها.
1) إذا دفعتك الغيرة إلى تحسين نفسك، وزيادة إخلاصك، وبذل جهد أكبر في خدمة الناس ابتغاء مرضاة الله، فهي غيرة محمودة.
2) أما إذا جعلتك تحقد على غيرك، أو تتمنى زوال نعمتهم، أو تشعر بالإحباط، فهي غيرة مذمومة تحتاج إلى تصحيح.
3) يقول النبي ﷺ: لا تنافس إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالًا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار". أي أن الغبطة المشـروعة هي التي تدفعك إلى المنافسة في الخير، لا إلى التحاسد والتنافس الدنيوي.
ثانيًا: جدِّد نيَّتك.. وكُن إمامًا في الإخلاص
تذكر دائمًا لماذا تعمل إمامًا؟
هل من أجل الشهرة والثناء؟
أم من أجل أن تكون وسيلةً لتقريب الناس إلى الله؟
قال الله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ وجاء في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشـركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) فكلما وجدت نفسك تميل إلى المقارنة مع غيرك، راجع قلبك واسأل نفسك: هل أريد رضا الله أم رضا الناس؟ هل أبحث عن قبول الناس، أم القبول عند الله؟
ثالثًا: اعمل بما تملك.. وسدِّد وقارب
قد يكون الإمام الآخر صوته أجمل، وقد يكون له أسلوب مميز في الخطابة، لكن لكل إنسان ميزة، ولكل عبد باب يطرق به باب الجنة، وركّز على نقاط قوتك:
1) إن كنت صاحب علم، فأفد الناس بعلمك.
2) إن كنت صاحب قلب رقيق، فأثر فيهم بحالك قبل مقالك.
3) إن كنت متقنًا لأحكام التلاوة، فعلِّم الناس التجويد.
4) إن كنت بارعًا في إصلاح ذات البين، فاجعل المسجد مركزًا لحل مشكلات المصلين، قال النبي ﷺ: (بلغوا عني ولو آية).
5) واعلم بأنك لا تحتاج إلى أن تكون أعذب صوت، أو أشهر خطيب، لتكون إمامًا ناجحًا، بل تحتاج إلى إخلاص نيتك، وإتقان عملك، وتقديم أفضل ما لديك، مهما كان قليلاً في أعين الناس، فهو عظيم عند الله إن كان خالصًا له.
رابعًا: استبدل بالمقارنة المنافسة الإيمانية
فبدلًا من أن تنظر إلى نجاح الآخرين على أنه خصم منك، اجعله مصدر إلهام لك. قل لنفسك:
1) إذا كان فلانٌ قد أثر في الناس بقراءته، فلماذا لا أجتهد في الخشوع في صلاتي ليكون لها الأثر ذاته؟
2) إذا كان الناس ينجذبون لخطبته، فلماذا لا أطور مهاراتي في الخطابة بأسلوب علمي صحيح؟
3) هكذا تتحول الغيرة إلى طاقة دافعة، بدلاً من أن تكون قيدًا مثبطًا، قال الله تعالى: ﴿وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَس﴾.
خامسًا: جاهد نفسك.. واستعن بالله
قد تمر بلحظات ضعف تعود فيها هذه المشاعر إليك، وهنا تحتاج إلى مجاهدة النفس، كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾، ويمكنك معالجة ذلك من خلال:
1) الإكثار من ذكر الله، وخاصة الاستغفار؛ لأنه يطهّر القلب من شوائب الدنيا.
2) الدعاء لنفسك بالإخلاص، والدعاء لمن غرت منه بالخير، فهذا يقضي على أي بقايا للحسد في القلب.
3) التفكر في الآخرة، وتذكر أن يوم القيامة لن يُسأل العبد: "كم كان صوتك جميلًا؟ بل: بأي قلب أتيت؟
خاتمة: ارتق بنفسك.. فالله يرى عملك
أخي المبارك، المهم ليس أن تكون الإمام الأكثر شهرة، أو صاحب الصوت الأجمل، بل أن تكون الإمام الذي يرضى الله عنه، ولو لم يعرفك أحد من البشـر، ولا تشغل بالك بمن يتحدث عن إمامٍ آخر أو يثني عليه، بل ركز على أن تسير أنت في طريق رضا الله بثبات ويقين.
عندما تعمل لله، سيضع الله لك القبول في القلوب، ولو لم تكن الأشهر ولا الأكثر شهرة، وأسأل الله أن يرزقك الإخلاص، ويبارك في عملك، ويجعلك من الأئمة الذين يهدون بأمر الله، ويرزقك الطمأنينة والرضا في عملك الدعوي.