الإستشارة - المستشار : د. عادل عبد الله هندي
- القسم : دعوية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
58 - رقم الاستشارة : 1255
10/03/2025
أعملُ مديرًا في جهة إدارية حكومية، وأواجه بعض السلوكيات الفاسدة لدى بعض الموظفين، مثل التهاون في أداء العمل، والتكاسل، والمحاباة، وعدم احترام القوانين. ولا أريد أن أتعامل معهم بعنف أو قسوة، لكنني في الوقت ذاته أبحث عن طريقة دعوية مؤثِّرة تساعدني على إصلاحهم بأسلوب يتوافق مع منهج القرآن والسنة، ويثمر نتائج حقيقية في تغيير سلوكياتهم. فكيف أحقق هذا التوازن بين الحزم واللين؟ وما هي الخطوات العملية التي يمكنني اتباعها؟
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وبعد: فلقد لمستُ في سؤالك -أخي الكريم- حرصًا صادقًا على الإصلاح، ورغبةً في الجمع بين العدل والرحمة، وهذا هو المنهج القويم الذي جاء به الإسلام.
ولا شك أن مواجهة السلوكيات الفاسدة في بيئة العمل أمرٌ يؤرِّق كل مسؤولٍ مخلص مُصلِح، خاصةً إذا كان يسعى للإصلاح لا لمجرد المحاسبة.
وأود أن أطمئنك بأن القرآن الكريم والسيرة النبوية بين يدينا كنوزٌ من الحلول الحكيمة التي تجمع بين الحزم والعفو، وبين التوجيه والمحاسبة، فاسمعني بقلبك قبل عقلك، وإليك ما يأتي:
أولًا: منهج القرآن في الإصلاح يبدأ من القلوب لا من العقوبات
أخي المدير المصلح الكريم: لقد أرشدنا الله تعالى إلى أن أي تغيير حقيقي لا يبدأ بالقوة الجبرية، بل بتغيير النفوس أوّلًا، فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ فالإصلاح الإداري الناجح لا يقوم فقط على إصدار القرارات؛ بل على بناء قناعات صحيحة لدى العاملين، تجعلهم يراقبون الله قبل أن يراقبوا المدير.
ولذلك أمرنا الله أن نخاطب الناس بالكلمة الطيبة، حتى مع المخطئين، فقال: ﴿وَقُل لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ فالكلمة الحانية أحيانًا تُحيي في القلب ما مات، والتوجيه اللين قد يفتح آفاقًا لم تكن لتفتح بالتوبيخ والعقوبة.
لكن في الوقت ذاته، حذّرنا الله -تعالى- من تجاوزات بعض النفوس، وأمرنا بأن نواجه الفساد بحكمة، فلا بد من ميزان دقيق بين اللين والحزم، حتى لا تتحول الرحمة إلى ضعف، ولا يتحول الحزم إلى قسوة.
ثانيًا: كيف عالج النبي ﷺ الأخطاء الإدارية؟
إنّ النبي -(صلى الله عليه وسلّم)- لم يكن فقط رسول هداية، بل كان قائدًا إداريًّا بارعًا، يواجه الأخطاء بحكمة، ومنهجه في ذلك يقوم على:
1. البحث عن الجذور لا الاكتفاء بالعلاج الظاهري: حين أخطأ خالد بن الوليد في أحد مواقفه القتالية، لم يعزله النبي ﷺ فورًا؛ بل وجّه خطأه، وأبقاه في منصبه، لأن المشكلة كانت في اجتهاده لا في إخلاصه. وهذا درس لك: لا تعاقب الموظف قبل أن تفهم سبب فساده؛ أهو ضعف بيئة العمل؟ أم غياب العدالة؟ أم مشكلة شخصية تحتاج إلى معالجة مختلفة؟
2. التوجيه بالحوار لا بالعقوبة أولًا: لما جاء رجل إلى النبي ﷺ يطلب منه أن يأذن له في الزنا، لم ينهره أو يعاقبه، بل خاطب عقله وقلبه قائلًا: (أترضاه لأمّك)؟ حتى أزال الشبهة من ذهنه تمامًا. فالتوبيخ وحده قد يجعل المخطئ عنيدًا، لكن الحوار الصادق قد يفتح له باب الهداية.
3. الموازنة بين التشجيع والمحاسبة: فلقد كان النبي ﷺ يثني على الصحابة ويحفزهم، وكان يربيهم على تحمل المسؤولية، لكنه لم يكن يسمح بالتراخي. وهذا يذكّرنا بأن المدير الناجح لا يكون صارمًا فقط، بل يكون أيضًا مصدر إلهام وتحفيز لموظفيه.
ثالثًا: كيف تطبق هذا المنهج في إدارتك اليوم؟
أخي، إذا كنت تريد إصلاحًا حقيقيًّا، فلا تكتفِ بالمراقبة والعقوبات، بل عليك بالآتي:
1) اجعل بيئة العمل عادلة ومحفّزة: لا يمكن للموظفين أن يكونوا مخلصين إذا شعروا أن الجهد لا يُقدَّر، أو أنَّ المكافآت لا تُوزَّع بعدل.
2) استخدم الحوار الفردي مع المقصِّـرين قبل اللجوء للعقوبة: ربما تجد لديهم أعذارًا لم تكن تتوقعها، وربما تكون النصيحة الصادقة هي كل ما يحتاجونه.
3) كن قدوة حسنة: الموظفون يتأثرون بما يرونه أكثر مما يسمعونه، فاجعل فيك من الأمانة والالتزام ما تحب أن تراه فيهم.
4) فعّل الرقابة الذاتية والإيمانية: ذكّرهم -دائمًا- بأنَّ الله يراقبهم قبل أي مدير، وبأن الأمانة في العمل عبادة يؤجرون عليها.
5) اجمع بين الحزم والرفق: ضع ضوابط واضحة، ولكن مع روح الأب الذي يريد إصلاح أبنائه لا مجرد معاقبتهم.
وأخيرًا: تذكر أنك رسول دعوة قبل أن تكون مديرًا مراقِبًا لمن تحت يديك، فلا تنسَ أن وظيفتك ليست فقط إدارة العمل؛ بل تربية النفوس، وكل موظف في إدارتك هو أمانة بين يديك. ربما يكون أحدهم بعيدًا عن الله، وسبب تقصيره ليس فسادًا، بل غفلة، وكلمة منك توقظه. وربما آخر وقع في الفساد بسبب ضعف إيمانه، فذكره بالله بدل أن تعنفه، وأسأل الله أن يبارك فيك، ويجعلك سببًا في إصلاح من تحت يدك، فالإصلاح لا يكون بالعصا وحدها، بل بالرحمة والحكمة معًا.