22 فبراير 2025

|

23 شعبان 1446

Consultation Image

الإستشارة 16/01/2025

أنا يا سيدتي سيدة سورية حلبية في منتصف الأربعينات كنت من أوائل من لجأ إلى تركيا مع بناتي الصغيرات تاركة ابني الكبير وزوجي اللذان استشهدا واحدا تلو الآخر ثم لم يلبث أبي أن استشهد هو الآخر وتلقيت أنا كل هذه الأنباء بالصبر والثبات والاحتساب.. كنت صامدة فمسئولية بناتي الصغيرات أصبحت كاملة في عنقي.. حتى لا أطيل عليك استقرت أوضاعنا في استانبول وأصبح لي عملي الخاص وبيتي الصغير المليء بالتفاصيل الذي نسجتها عبر هذه السنوات وكانت مزيجا من مشاعر الاشتياق والألم والتطلع للمستقبل في هذه الأثناء نشأت بناتي في بيئة مغايرة للبيئة الحلبية واندمجن في نسيج المجتمع التركي حتى أن الكبرى خطبت لشاب تركي بالفعل ولكن لم يتم الأمر في النهاية فلم نكن نتطلع وقتها للعودة أبدا ولكن سبحان الله انتصرت الثورة وأصبح أمر العودة متاحا بل لزاما فأنا أتشوق لأرض على ثراها نثرت دماء زكية هي الأقرب لقلبي وأنا الآن أقوم بوضع اللمسات النهائية للسفر يحدوني الاشتياق لرؤية بقية أهلي وفي الوقت نفسه أعاني من مشاعر الخوف والقلق فأشعر إنني غير قادرة على البدء من جديد.. خائفة من مجهول لا أعرف ملامحه.. خائفة على بناتي ألا يستطعن الاندماج.. خائفة من ذكرياتي في استانبول أن تظل تطاردني كما ظلت حلب تطاردني في شوارع استانبول.. أحببت أن أبوح لك ببعض ما يجول في قلبي عل ذلك يهدئ من روعي.. أم عمران

الإجابة 16/01/2025

أختي الكريمة أم عمران، أهلاً وسهلاً ومرحبًا بك على صفحة استشارات المجتمع...

هنيئًا لك يا أم عمران ولكل نساء حلب والشام انتصار الثورة بعد سنوات عجاف من الحرب والمعاناة واللجوء.

أنا مقدرة لكل ما تحكين عنه، ولعل رسالتك هذه هي كما قلت رسالة للبوح والفضفضة والحكي، وهو أمر صحي جدًّا أن نحكي كل ما يدور في عقولنا من أفكار وكل ما يدور في قلوبنا من مشاعر ومخاوف، وكل هذا أمر طبيعي جدًّا ولا يستدعي منك القلق الشديد فهدئي فعلا من روعك.

أم عمران، أنت ابنة لشهيد وزوجة لشهيد وأم لشهيد (نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحدًا)؛ فهنيئًا لك هذه المكانة، أنت ابنة هذه الأرض الطيبة التي ارتوت بتلك الدماء الغالية، هذه المكانة التي تشترك فيها معك بناتك فلكنّ الحق جميعًا بالفخر بهؤلاء الشهداء، فكيف لا ترجعون وأنتم الأحق بهذه العودة...

أقصد أن عليك أن تبثي هذه الروح في بناتك وأنك لقادرة على ذلك؛ فأنت ملحمة من ملاحم الصمود الإنساني بتحملك استشهاد كل هؤلاء دون أن ينحني ظهرك بل امتلكت من قوة الحياة ما يجعلك تمضين قُدمًا فتستقرين في عمل وتؤسسين بيتًا وتربين بُنيات صغيرات حتى يصلن لمرحلة النضج...

فعلت هذا كله بطاقة من الأمل جعلتك تنسجين ذكريات جديدة تتداخل مع ذكرياتك القديمة، وكما تعلمين فلسنا نحن فقط من يسكن الأماكن بل إن الأماكن تسكننا هي أيضا وتحفر شوارعها وطرقاتها دهاليز غائرة في ذاكرتنا...

هاهي الأدوار قد انقلبت الآن فكادت هذه الذكريات الجديدة أن تمسي هي الذكريات القديمة، لكن لعل ما يقلقك حقًّا ليس هو سيل الذكريات ولا تفاصيلك الصغيرة هنا وهناك بل لعله البدء من جديد في مكانك القديم الجديد.. لعله خوفك على بناتك اللاتي عشن في ظل ثقافة مختلفة ولا يملكن مثلك ذاكرة قديمة حافلة، وهو خوف مشروع.

كما أن فكرة البدء مرة أخرى تثير لدى الإنسان بعض مشاعر التوتر والقلق رغم كل الأشواق والاشتياق، ولكن امرأة مثلك تحملت ما تحملت لن ترهبها بداية جديدة بل العكس أنت ستلتقين بباقي أهلك من حرمت منهم لسنوات أمك إخوتك وأخواتك وأهل زوجك.. صديقاتك القدامى، كل هؤلاء سيكون بيئة حاضنة وداعمة ستهون عليك كثيرًا...

ستودعين مشاعر الاغتراب التي عشتها هناك في إستانبول مهما لونتها ذكريات جديدة وحياة جديدة، وهذا كله سينعكس على بناتك.. من الطبيعي أن يأخذن بعض الوقت حتى يستطعن الاندماج، وهذا أمر طبيعي للغاية فأرجو أن تهيئي نفسك لذلك...

توكلي على الله، وثقي أنه لن يضيعك، وثقي أنه لن يمر عليك في الوطن أصعب مما مررت به في أرض اللجوء والغربة، ويكفيك أنباء الاستشهاد التي توالت عليك واحدًا تلو الآخر، لا تترددي في تكرار الفضفضة والبوح مرة أخرى.. في انتظار جديدك.