22 فبراير 2025

|

23 شعبان 1446

Consultation Image

الإستشارة 27/01/2025

هل ورد في الشريعة الإسلامية شيء عن حماية المستهلك؟ وما التدابير التي وضعتها الشريعة الإسلامية من أجل ذلك؟

الإجابة 27/01/2025

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

فعقيدة المسلم الصحيحة توجب عليه أن يؤمن بأن الله سبحانه وتعالى ما ترك من شيء فيه خير للمسلمين خاصة وللناس عامة إلا وضّحه وبيّنه وحث الناس عليه، ويسر السبل للانتفاع به، وما ترك من شيء فيه شر إلا وضّحه وبيّنه ونهى الناس عنه، ووضع من التدابير الواقية من الوقوع فيه.

ومن التدابير التي وضعتها الشريعة الغراء لحماية المستهلك تحريم الإسراف والتبذير والغش والاحتكار، وأعطت للحاكم حق التسعير وفرضه على الناس إذا حدث تجاوز من التجار، بحيث لا يظلم التاجر ولا المستهلك.

يقول الله تعالى : ﴿... وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (النحل: 89).

وهذا بعض ما وضعته الشريعة الغراء لحماية المستهلك:

1- حماية المسلم من نفسه:

وأول ما شرع الله عز وجل في حماية المستهلك حمايته من نفسه التي بين جنبيه، فأمره أن يأكل ويشرب في اعتدال دون إسراف أو تبذير، يقول الله تعالى ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ﴾ (الأعراف: 31).

ويقول تعالى: ﴿وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾ (الإسراء: 29).

وحماية المسلم من نفسه وضبط سلوكه الاستهلاكي هي المقصد الذي سعت إليه الأحكام الفقهية في الإسلام في تعاملها مع قضية المستهلك، ولعل في قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه "أوَ كلما اشتهيتم اشتريتم!" لجابر بن عبد الله، حينما رأى في يديه درهمًا سيشتري به لحمًا، يعكس مدى الرغبة في أن تكون حماية المسلم ذاتية.

ولعل أيضًا الرسالة الحقيقية التي أراد عمر رضي الله عنه توجيهها إلى جابر تبدو حينما أتبع كلامه مخاطباه إياه ".. ما يريد أحدكم أن يطوي بطنه لابن عمِّه وجاره! أين تذهب عنكم هذه الآية: ﴿ِأَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا﴾ (الأحقاف: 20).

2- محاربة الغلاء بالاستغناء:

ولما ارتفعت أسعار السلع على الناس واشتكوا لعمر رضي الله عنه فرد عليهم قائلا "أرخصوها بالاستغناء". إذن.. وضع عمر قاعدتين ذهبيتين هما: "أو كلما اشتهيت اشتريت"، "أرخصوها بالاستغناء!!"، ولو طبقهما الناس ما وقعوا تحت سلطان التجار الذين يستغلون حاجة الناس وشغفهم بالشراء لزيادة الأسعار أضعافا مضاعفة.

فالتاجر لن يصبر طويلا وخاصة في السلع التي يتسرب إليها العطب، ويسرع فيها التلف.

3- الشريعة وقفت من التاجر والمستهلك موقفا معتدلا:

ولقد حرص الإسلام على حماية المستهلك، وحماية المنتِج بدرجة متساوية، ووضع لكل منهما من الضوابط والأسس ما ينظم العلاقة بينهما، حتى لا يطغى أحد على أحد؛ ففي مجال الإنتاج نبّه القرآن الكريم على الثروات الطبيعية في البر والبحر، وحث على العمل وأرشد إليه، وأمر المسلمين بالمحافظة على الموارد الطبيعية، والإنتاج في دائرة الحلال المباح، والابتعاد عن الحرام، كما أمرهم بإنتاج كل ما يعود على الفرد والأمة بالنفع، ونهاهم عن إنتاج كل ما يؤثر بالضرر على الفرد والمجتمع.

وقد أخذ الفقهاء من فحوى النصوص القرآنية والإرشادات النبوية ما جعلهم يتفقون على أن إنتاج سلعة، أو آلة، أو وجود حرفة من الحرف أو صناعة من الصناعات يكون فرضًا واجبًا على عموم الأمة، تأثم الأمة كلها لو لم يقم بعض أفرادها به، حيث لا تلجأ إلى غيرها فتهون على نفسها، وتهون في أعين أعدائها (واليد العليا خير من اليد السفلى)، ومن يهن يسهل الهوان عليه!!

فهي لم تفعل كما فعلت النظم الرأسمالية وأنها تحث على الاستهلاك وتشجع على الثراء حتى لو كان على حساب الغير، ولم تفعل كما فعلت النظم الاشتراكية من ظلم أصحاب الأموال، والوقوف بجوار الفقراء حتى لو كان على حساب الأغنياء.

4- تحريم الاحتكار والغش:

كما حرم الإسلام الاحتكار ونهى عنه، وتزداد حرمته إن كانت السلعة من السلع الضرورية التي لا يستطيع الإنسان أن يستغني عنها، أيضا نهى الإسلام عن الغش وحذر منه، "من غشنا فليس منا"، ونهى أن يستغل البائع سذاجة المشتري وعدم خبرته في إيهامه بجودة السلع، ولذلك نهت الشريعة عن الغرر والتدليس وأوجبت رد السلعة على البائع إن كان ثمة جهالة فاحشة أو غرر لا يحتمل.

وفي مجال الاستهلاك حث الإسلام على الإنفاق على الطيبات ومحاربة الشح والتقتير، ومقاومة الترف والسرف والتبذير، وحمل القرآن على الترف والمُتْرَفين كما نفّر من الاستدانة -إلا في حالة الضرورة أو الاحتياج الشديد- كما نهت الشريعة عن تبديد الأصول الثابتة، وحثت على المحافظة عليها، ونهت الشريعة عن إتلاف المال أو إهماله وإضاعته، وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على مَنْ تركوا الشاة الميتة فلم ينتفعوا بجلدها، فقد روى الشيخان عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بشاةٍ ميتة فقال: "هلَّا استمتعتم بإهابِهَا؟ (جلدها)، قالوا: إنها مَيْتَة‍ قال: "إنَّما حُرِّمَ أكلُها" (متَفق عليه عن ابن عباس، كما في اللؤلؤ والمرجان "205").

ومن أجل ذلك –أيضا- عنون البخاري في صحيحه فقال: باب: هل تُكْسَر الدِّنَان التي فيها خمر أو أن تُخْرَق الزِّقاق (أي القِرَب التي فيها الخمر)؟ وقال الحافظ ابن حجر في شرحه: لم يبين الحكم؛ لأن المعتمد فيه التفصيل، فإن كانت الأوعية يراق ما فيها، وإذا غُسِلَت وطَهُرَت وانتفع بها، لم يَجُزْ إتلافها، وإلا جاز (ينظر كتاب العلامة فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي دور القيم والأخلاق في مجال الاقتصاد الإسلامي).

إن ما تقدم يبين أن للإسلام نظرة متكاملة لحماية المستهلك يؤسسها في بادئ الأمر على حماية النفس وردع المسلم لشهواته الاستهلاكية.

5- التسعير:

ومن حق الحاكم أيضًا، بل من واجبه إصدار القوانين التي تحمي المستهلك، ويفرض التسعيرة العادلة دون حيف أو ظلم لأحد، وإصدار القوانين التي تعاقب المحتكرين والمتلاعبين بأقوات الناس، ومن واجبات الرعية طاعة الحاكم في مثل هذه القوانين.

فعن أنس -رضي الله عنه-، حيث قال: "غلا السعر على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فقالوا : يا رسول الله غلا السعر، فسعّر لنا، فقال: "إن الله هو المسعر القابض الباسط الرزاق، إني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد يطلبني بمظلمة في دم ولا مال" رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي), وقال: حسن صحيح.

إلا أن التجار إذا رفعوا السعر وتعدوا حدود العرف وأضروا بالسوق ووقع الغلاء الفاحش فعند ذلك يشرع للسلطة أن تتدخل بتحديد السعر وفرض الثمن المقبول في السوق صيانةً لحقوق الناس ودفعًا للضرر الواقع عليهم من جشع التجار، وهذا ما ذهب إليه الإمام مالك وبعض الشافعية وغيرهم من أئمة السلف كسعيد بن المسيب وربيعة بن عبد الرحمن ويحيى بن سعيد الأنصاري.

والله تعالى أعلى وأعلم