الإستشارة - المستشار : د. رجب أبو مليح محمد
- القسم : فقهية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
251 - رقم الاستشارة : 717
18/01/2025
تتردد أقول من بعض العلماء الآن أن النقاب لا أصل له، وهو من العادات، وبالتالي يجوز لولي الأمر أن يصدر قرارا بمنعه منعا باتا، لأن هذا من سلطاته فما رأي الشرع في هذه المسألة؟
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه، ومن والاه، وبعد:
خلاصة الفتوى: أن النقاب مباح في الأمور العادية، ومندوب إذا خشيت الفتنة، فالذين يقولون إنه واجب لا يسندهم الدليل، والذين يقولون إنه بدعة مستحدثة يتجاهلون الواقع الفقهي والواقع العملي، فلا هو واجب ولا هو حرام، وقد يكون مباحًا أو مندوبًا، شريطة ألا تنظر المنتقبة إلى المختمرة على أنها متبرجة عاصية، وكيف تكون عاصية ومعها جمهور الفقهاء من القدامى والمحدثين، ولا تنظر المختمرة إلى المنتقبة على أنها مبتدعة أو متشددة، وكيف تكون مبتدعة من تأخذ برأي إمام من أئمة الفقه العدول.
وبناء على ما تقدم نقول ليس من حق ولي الأمر منع النقاب بقرار عام للأسباب التالية:
أولاً: النقاب واجب عند جمهور فقهاء الحنابلة، ولا نستطيع أن نمنع مسلمًا، أو مسلمة الأخذ برأي يراه أحد الأئمة العدول، أو المذاهب المعتبرة واجبًا، وبالتالي من يقلد هذا المذهب أو يستريح لهذا الرأي يصير في حقه النقاب واجبًا شرعيًّا يأثم المسلم بتركه، فإذا خرج قرار عام يمنع المسلمة من لبس النقاب، فكأننا نأمرها بمعصية، ولا طاعة لمخلوق كائنًا من كان في معصية الخالق سبحانه وتعالى.
والمذاهب الفقهية قد استمدت قوتها من قبول علماء الأمة لها على سبيل الإجمال، ولا يجوز لعالم أيًّا كان قدره أن يُلغي العمل بمذهب من هذه المذاهب خاصة فيما يتعلق بعلاقة المسلم بخالقه.
ثانيًا: على رأي جمهور الفقهاء غير الحنابلة لم يقل أحد إن النقاب بدعة، أو أنه عادة لا يؤجر المسلم عليها، وبالتالي من يقول هذا من العلماء فإنه يخالف جمهور فقهاء الأمة وليس الحنابلة فقط، ولكن الذي نفاه الجمهور أن يكون النقاب فرضًا لازمًا تأثم المسلمة بتركه، لأنه كان موجودًا في عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورآه وأقره، ولبسته زوجاته على سبيل الوجوب، ولبسته النساء المؤمنات على سبيل الندب، ولم ينههم عن ذلك، وأقل ما يقال في النقاب الإباحة أو الندب.
ثالثًا: يجوز للإمام أن يقنن مذهبًا فقهيًّا واحدًا يلزم الناس به فيما يخص المعاملات حتى يسهل على الناس طرق التقاضي، ولا يؤدي الاختلاف إلى التنازع، لكنه لا يجوز له ذلك في العبادات الفردية التي لا تضر أحدًا وهي علاقة فردية بين المسلم وخالقه.
رابعًا: لو نادى هذا الرأي بوجوب خلع المرأة للنقاب في أماكن معينة، مثل دخول المطارات، أو استخراج بطاقات التحقق من الشخصية، وجوازات السفر، ورخص القيادة وما شابهها حتى يُتعرف على شخصيتها، ويكون ذلك أمام المرأة المختصة، في غير حضرة الرجال لكان أمرًا سائغًا ومقبولاً؛ لأن ولي الأمر من واجبه تأمين سلامة الناس في مثل هذه الأماكن.
أما إصدار قانون عام فهذا ما لا يقبله أحد.
خامسًا: حتى لو كان النقاب عادة ـ وهذا غير صحيح ـ أو مباحًا فقط ، فلا يجوز منعه بقانون عام؛ لأن سلطة ولي الأمر في تقييد المباح ليست على إطلاقها، ولكن على ولي الأمر مراجعة العلماء والمتخصصين قبل تقييد المباح، ولا يجوز له تقييد المباح إلا لتحقيق مصلحة عليا.
يقول فضيلة الشيخ العلامة الدكتور يوسف القرضاوي – رحمه الله:
إن الذي أعطاه الشرع لولي الأمر: هو حق تقييد بعض المباحات لمصلحة راجحة، في بعض الأوقات، أو بعض الأحوال، أو لبعض الناس، لا أن يمنعها منعًا عامًّا مطلقًا مؤبدًا؛ لأن المنع المطلق المؤبد أشبه بالتحريم الذي هو من حق الله تعالى، وهو الذي أنكره القرآن على أهل الكتاب الذين ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّه﴾ (التوبة: 31)، وقد جاء الحديث مفسرًا للآية: "إنهم أحلوا لهم وحرموا عليهم فاتبعوهم" (رواه الترمذي).
سادسًا: لو انشغل هؤلاء العلماء بمنع السافرات المتبرجات من التبرج؛ لأن التبرج مجمع على تحريمه لدى فقهاء كل المذاهب السنية والشيعية والإباضية والظاهرية وكل العقلاء في العالم العربي والإسلامي، بل وكل الشرائع السماوية قبل الإسلام مثل اليهودية والنصرانية لكان أولى، ولكتب في ميزان حسناتهم، أما أن نأتي على النقاب فنحرمه ونجرمه، ونترك السفور والتبرج، بل العري والخلاعة تمشي دون استحياء أو خجل حتى أصبحت معروفًا بين الناس، فهذا لعمرك إنه المنكر الحقيقي، لو تصدى العلماء لهذه الظاهرة ودعوا النساء إلى الحشمة، ومنعوا المتبرجات من دخول مؤسسات الدولة التي ينص دستورها على أن دينها الرسمي الإسلام، وأن الشريعة مصدر أساس في تشريعها لكان أولى لهم وأكرم.
ولله درُّ من قال:
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ** ولو عظَّموه في النفوس لعُظِّما
وصدق الشاعر إذ يقول:
يا رجــــــال العلم يا ملح البلد ** من يصلح الملح إذا الملح فسد
نسأل الله أن يجنب أمتنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يهدينا للحق، ويلهمنا وعلماءنا الصواب والرشد، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله تعالى أعلى وأعلم