الإستشارة - المستشار : د. رجب أبو مليح محمد
- القسم : العبادات
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
366 - رقم الاستشارة : 2455
23/08/2025
السؤال الأول: ما حكم الدعاء لغير المسلم بالهداية في حياته؟
السؤال الثاني: ما حكم الدعاء لغير المسلم بالرحمة أو الشفاء في حياته؟
السؤال الثالث: ما حكم الترحم على غير المسلم بعد موته (مثل قول "الله يرحمه")؟
السؤال الرابع: ما الواجب شرعاً تجاه شخص غير مسلم مات؟
مات القاضي المحبوب من أغلب أهل الأرض .....من هو القاضي فرانك كابريو؟ القاضي فرانك كابريو (Frank Caprio) هو قاضٍ أمريكي اشتهر على مستوى العالم بلقب "القاضي الرحيم"، وُلد في 23 نوفمبر 1936 وتوفي في 1 سبتمبر 2024 عن عمر ناهز 88 عامًا بعد صراع مع مرض السرطان.
ذاع صيته من خلال برنامج تلفزيوني واقعي كان يُعرض على قناة "أيه آند إي" (A&E) يُسمى "القاضي المنظّم" (Caught in Providence)، حيث كان يُظهر تعاملاً إنسانياً فريداً مع المتهمين الذين يقفون أمامه. تميز بأسلوبه القضائي الفريد الذي يجمع بين العدالة والرحمة، حيث كان يستمع إلى قصص الناس وظروفهم الصعبة (مثل المشاكل المالية أو الأسرية) ويتخذ قراراته بناءً على فهمه للإنسان قبل تطبيق النص القانوني، مما جعل ملايين الناس حول العالم يتعاطفون معه ويحبونه.
قبل وفاته، ناشد متابعيه عبر وسائل التواصل الاجتماعي قائلاً: "أنا أؤمن بقوة الدعاء، اذكروني في صلواتكم". أثارت هذه المناشدة جدلاً واسعاً في الأوساط الإسلامية بين من دعا له بالرحمة والشفاء ومن رأى أن الدعاء لغير المسلم بالرحمة بعد موته غير جائز شرعاً.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فلا خلاف بين العلماء حول الدعاء لغير المسلم في حياته بالهداية للإسلام أو بخير الدنيا، مثل الشفاء والصحة ما لم يكن محاربًا للمسلمين معتديًا عليهم، ولكن الخلاف هنا حول الدعاء له بعد وفاته على الكفر، وكيف يكون الدعاء له بعد وفاته.
وهنا يرى جمهور الفقهاء أنه لا يجوز الترحم على غير المسلم الذي مات على غير الإسلام، وخاصة إذا وصله الإسلام صحيحًا ورفضه.
ويرى البعض أنه إن قصد بالدعاء تخفيف العذاب، أو عدم المؤاخذة على الذنوب الأخرى غير الكفر، أو أن الأعمال الصالحة التي عملها في حياته تخفف عنه العذاب وتنفعه عند الله، يكون جائزًا.
وكان الأولى بالمسلمين أن ينشغلوا بسؤال أهم لماذا لم يصلوا إلى هذه الشخصيات العادلة الخلوقة قبل وفاتها ويعرضوا عليهم الإسلام فلعلهم بفطرتهم النقية وأخلاقهم الحسنة أن يقبلوا الإسلام، وقد حزن النبي ﷺ على يهودي مات، وقال نفس تفلتت إلى النار.
وهذا القاضي (فرانك كابريو) وغيره الكثير ممن قدموا خيرًا للإنسانية، سواء في مجال العدالة، أو في مجال الإنفاق والبذل، أو في مجال حقوق الإنسان والدفاع عن قضاياهم العادلة مثل القضية الفلسطينية وغيرها، أخطأنا في حقوقهم ولم نرد لهم الجميل بدعوتهم إلى الإسلام، ثم نعترض على من دعا لهم بالرحمة بعد موتهم.
وعقيدتنا أن الله لا يظلم الناس شيئًا، ولن يضيع عنده معروف، لكن كيف؟ علم ذلك عند الله تعالى، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [يونس: 44]، ويقول تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 40]، ويقول تعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7، 8].
وقد ناقش الدكتور معتز الخطيب هذه المسألة في عدة مقالات على موقع الجزيرة وعرض لأدلة المانعين والمجيزين ثم خلص إلى ما يلي:
وخلاصة الكلام، أن الدعاء للكافر بالمغفرة يشتمل على معنيين:
الأول: أن يريد بدعائه له مغفرة الشرك الأكبر، وهذا يحرم بالإجماع؛ لأن الشرك الأكبر لا يُغفر بنص القرآن.
الثاني: أن يريد مغفرة ما دون الكفر، والأصل في الأعمال التي هي دون الشرك أنها متروكة للمشيئة الإلهية بنص القرآن (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)؛ فدعاء المسلم للكافر إنما هو دعاء من أجل تحقيق المشيئة الإلهية بالمغفرة للكافر ما دون الشرك، ولم يستبعد الآلوسي هذا المعنى، في حين أن غيره أثبته صراحة كما نجد لدى عدد من العلماء.
وقد أوضح شهاب الدين الخفاجي والآلوسي وغيرهما أن العذاب الذي لا يُخَفَّف هو عذاب الكفر بحسب مراتبه، أما العذاب الذي دلت الأحاديث النبوية على تخفيفه فهو ما عدا الكفر. ومعنى إحباط أعمال الكفار التي ورد النص القرآني بها هو أنها لا تنجيهم من العذاب المخلِّد في النار، وهو معنى كونها سرابًا وهباءً.
ويرجع أصل هذا النقاش إلى مقدمات رئيسية، هي:
1. ثبوت تفاوت الكفار في الآخرة، وأنهم ليسوا سواءً، وأن النار دركات كما أن الجنة درجات، بل إن أنور شاه الكشميري قد نقل الإجماع على أن الكافر العادل أحسن حالاً من الكافر الظالم في الآخرة.
2. أن الشرك الأكبر لا يُغفر بصريح القرآن، وهو مسألة إجماعية.
3. بقي النقاش في هل يجوز أن ندعو للكافر بمغفرة ما عدا الشرك الأكبر؟ وهو ما حررناه هنا وأنه يجوز، ولكن الكافر الذي ندعو له هنا إما أن يكون قد عمل عملاً صالحًا وإما عملاً سيئًا. فالدعاء لمن عمل صالحًا يكون بأن يقبله الله تعالى منه لا بالمغفرة؛ لأن المغفرة إنما تكون للعمل السيئ، كما أن عدل الله تعالى يقتضي أن يكافئ الكافر على عمله الصالح إما في الدنيا بإكرامه، وإما في الآخرة بتخفيف العذاب عنه، ومعنى ذلك أن دعائي للكافر بخصوص عمله الصالح غير مؤثر في الواقع، والذي يؤثر هو دعائي للكافر بالتجاوز عن عمله السيئ فيما دون الشرك، وفي أحاديث تخفيف العذاب عن أبي طالب وأبي لهب وغيرهما شواهد على هذا، وإن كان أبو طالب وأبو لهب ليسا سواءً أيضا في الآخرة.
4. الكفر لا يقتضي أن كل عمل صدر من الكافر غير معتبر؛ لأجل كفره، فيمكن أن نميز بين الأعمال كما سنفصل في مقال لاحق بمشيئة الله.
توضح هذه الآراء رحابة النقاشات الفقهية الكلاسيكية، وأنها تجمع بين مسائل تأويلية نصية وأخرى أخلاقية وإنسانية، فحتى الذين أطلقوا القول بحرمة الدعاء للكافر تحدثوا عن جواز المشي في جنازته بل زيارة قبره إن كان قريبًا، وتكفينه إن كان من أهل الذمة رعاية لذمته، ولكن النقاشات الشعبية الحالية تغيب عنها رعاية البعد الإنساني ويغلب عليها اتخاذ مواقف متوترة؛ فضلاً عن أنها لا تعكس الموروث الفقهي نفسه، والله المستعان.
والله تعالى أعلى وأعلم.