الإستشارة - المستشار : أ. فتحي عبد الستار
- القسم : إيمانية
- التقييم :
- عدد المشاهدات :
63 - رقم الاستشارة : 887
04/02/2025
أنا مصابة باضطراب ثنائي القطب النوع الأول، ولكن الآن قلت الأعراض -ولله الحمد-، ولم يعد المرض مسيطرا علي، وسؤالي عن الفترة التي أصبت فيها بالذهان والانفصال عن الواقع، كانت تأتيني تلك الفترة بأفكار: أن أهلي من الكفار، ويريدون إيذائي، وأنه يجب علي مواجهتهم ونصرة ديني! سؤالي: هل يوجد حكمة من تسيير الأمور في هذه الفترة بهذا الشكل، غير أن يرفعني الله بمرضي، ويكفر عن سيئاتي؟ لا أسأل عن ماهية هذه الحكمة، لكني تعبت في هذه الفترة بشكل بالغ الصعوبة؛ نتيجة فقداني لعقلي وتفكيري بهذه الطريقة، ولا أحد يدري ذلك، فهل حكمته فقط أن يكفر عن سيئاتي؟ وأنا أيضا أطمع في أن يكرمني الله بثواب أكثر من المعافاة من هذا المرض. وجزاكم الله خيرا.
أختي الكريمة، مرحبًا بك، وأسأل الله أن يبارك لك في صحتك وعافيتك، وأن يجزيك خير الجزاء على صبرك وثباتك في هذه المحنة، ويجعل لك من أمرك يسرًا، وبعد...
فإن ما مررتِ به هو ابتلاء عظيم، ولكن رحمة الله أوسع، وحكمته أعظم، وهو سبحانه أرحم بنا من أنفسنا. ولا يخلو أمر المؤمن من خير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له» [رواه مسلم].
وأود -قبل أن أجيبك عن أسئلتك المباشرة- أن أطمئنك بأن ما ذكرتِه من أفكار كانت تراودكِ في فترة المرض، مثل الاعتقاد بأن أهلكِ كفار ويريدون إيذاءكِ، وأنه يجب عليكِ مواجهتهم باسم نصرة الدين... إلخ، هو أمرٌ ناتج عن الحالة الذهانية التي كنتِ تمرين بها، وليس له أي علاقة بحقيقة إيمانكِ أو عقيدتكِ، ولا مؤاخذة عليكِ في هذه الأفكار؛ فالشريعة الإسلامية -برحمتها وسعتها- لا تؤاخذ الإنسان على ما يعجز عن التحكم فيه.
وهذه الأفكار التي راودتكِ لم تكن باختياركِ، بل كانت نتيجة اضطراب نفسي مؤقت، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لأمتي عما حدَّثت به أنفسها، ما لم تتكلم به أو تعمل به» [متفق عليه]. فما دمتِ لم تتعمدي هذه الأفكار، ولم تتصرفي بناءً عليها بإرادتكِ، فلا إثم عليكِ فيها، بل هي من البلاء الذي ابتلاكِ الله به ليطهركِ ويرفع درجتكِ.
ومعروف أن مرض اضطراب ثنائي القطب، خصوصًا في نوبات الذهان، قد يسبب للإنسان أفكارًا خاطئة أو أوهامًا تتعلق بالدين، أو بالشك في نوايا المقربين منه، أو حتى تصورات مغلوطة عن الواقع. هذا ليس ضعفًا في الإيمان، وليس ذنبًا؛ بل هو جزء من طبيعة المرض التي تحتاج إلى علاج ورعاية. ومن رحمة الله أن زالت عنكِ هذه الأوهام الآن، فاحمدي الله على ذلك، واستعيذي به من أي انتكاسة.
وهذا التعافي يوجب عليك عدة أمور:
1- شكر الله وحمده على أن نجاكِ من هذه المحنة، وردَّ إليكِ عقلكِ وصفاء فكركِ.
2- البر بأهلكِ والاعتذار إليهم إن كنتِ قد آذيتهم بأي تصرف بسبب هذه الأفكار، فهم أحبابك، وقد كانوا –بالتأكيد- يتألمون لأجلكِ.
3- الاهتمام بصحتك النفسية والاستمرار في العلاج حتى لا تعود هذه الأوهام مرة أخرى.
4- الاستعاذة من وساوس الشيطان؛ لأن الشيطان قد يستغل ضعف الإنسان في مرضه ليبث فيه أفكارًا باطلة، قال تعالى: ﴿وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنۡ هَمَزَٰتِ ٱلشَّيَٰطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحۡضُرُونِ﴾ [المؤمنون: 97 و98].
ونذهب الآن إلى أسئلتك التي طرحتِها:
لا شك -أختي الفاضلة- في أن الابتلاء يرفع الدرجات ويمحو الخطايا، ولكن حكمة الله لا تنحصر في ذلك، بل تتجاوز إلى أمور أعظم، قد نراها وقد تخفى علينا. ومن هذه الحكم:
1- تنقية القلب وزيادة القرب من الله:
فعندما يمر الإنسان بمحنة قاسية، يزداد تعلقه بالله، ويدرك حاجته المطلقة إليه، فيكون أقرب إليه مما كان عليه قبل الابتلاء. وهذا باب عظيم من أبواب الفضل، قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ ٱلۡإِنسَٰنَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنۢبِهِۦٓ أَوۡ قَاعِدٗا أَوۡ قَآئِمٗا﴾ [يونس: 12]؛ فكل لحظة من الابتلاء، إن صبر عليها العبد واستعان بالله، كانت بابًا لزيادة القرب من الله وصدق اللجوء إليه.
2- تعلُّم الصبر والرضا والتوكل:
فالابتلاء مدرسة عظيمة في تعلم الصبر والرضا بقدر الله. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط» [رواه الترمذي]. فأنتِ اليوم أقوى وأثبت، وأشد يقينًا، وهذه من النعم العظيمة التي وهبك الله إياها من خلال هذا الابتلاء.
3- اختبار الإيمان وتمييزه عن الوساوس:
إن المرور بتجربة المرض النفسي، خصوصًا فيما يصاحبه من أفكار قهرية ووساوس دينية، يُظهر للإنسان مدى حقيقة إيمانه، ويجعله أكثر وعيًا بحدود العقل، وأحكام الدين. هذه التجربة جعلتكِ تميزين بين وساوس المرض والإيمان الصادق، وجعلتك أكثر إدراكًا لرحمة الله، إذ لم يؤاخذكِ بهذه الأفكار التي جاءت رغمًا عنكِ، بل أعانكِ حتى زالت عنكِ.
4- إلهام الرحمة بالآخرين:
فمن يمر بمرض نفسي أو أزمة شديدة، يُصبح أكثر رحمة وتفهُّمًا لمحنة الآخرين، فيتحول إلى يد عون لهم، سواء بالدعاء، أو بالكلمة الطيبة، أو بالنصح. ربما ما مررتِ به جعلكِ أكثر وعيًا بمعاناة غيرك، وأكثر قدرة على تقديم العون لمن يحتاجه.
إذن، فحكمته –سبحانه- لا تكمن في تكفير السيئات فقط، ولا تنحصر في ذلك؛ بل هي أوسع بكثير، ومن رحمته أنه يعوّضكِ بأمور لا تتوقعينها. بل حتى مع العافية والشفاء، فإن الله قد يبدلك بهذا الألم سعادة وراحةً في قلبك لم يكن من الممكن الوصول إليها بغير هذا الطريق. تأملي قوله تعالى: ﴿فَعَسَىٰٓ أَن تَكۡرَهُواْ شَيۡـٔٗا وَيَجۡعَلَ ٱللَّهُ فِيهِ خَيۡرٗا كَثِيرٗا﴾ [النساء: 19]، فربما كان هذا المرض طريقًا لخير كثير في حياتك، ستدركينه بمرور الزمن.
أما طمعك في ثواب أكبر من مجرد العافية، وطموحكِ إلى مزيد من الأجر فهو أمر محمود، والله واسع الكرم والعطاء، فلا يقتصر الأجر على العافية فقط؛ بل قد تكون لكِ عند الله درجات عظيمة بفضل صبركِ، ودعائكِ، واحتسابكِ الأجر. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفّر الله بها من خطاياه» [متفق عليه].
لكنّ هناك أمرًا مهمًّا أود تنبيهك إليه، وهو ألا تحصري تفكيركِ –فقط- في انتظار الثواب بعد المرض، بل اجعلي حياتكِ كلها في عبادة الله وطاعته، واستثمري صحتكِ الحالية في العمل الصالح، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اغتنم خمسًا قبل خمس...» وذكر منها: «وصحتك قبل سقمك» [رواه الحاكم].
وختامًا -أختي الكريمة- فإن الله لم يبتلكِ بهذه المحنة إلا وهو يعلم أنكِ قادرة على تحملها؛ بل أراد لكِ بها خيرًا لا يعلمه إلا هو. وكل دقيقة من الألم التي مررتِ بها لن تذهب سدى عند الله؛ بل ستجدينها حسنات ورحمة، ربما في الدنيا قبل الآخرة. احمدي الله- عز وجل- واحتسبي، واسألي الله دائمًا أن يعوّضكِ خيرًا مما فات، فهو القائل: ﴿وَسَيَجۡزِي ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِينَ﴾ [آل عمران: 144].
أسأل الله أن يرزقكِ سكينة القلب، وطمأنينة النفس، وعافية لا تزول، ويرزقكِ فرحة تعوضكِ عن كل لحظة ألم، ويرفع درجتكِ عنده في الدنيا والآخرة. آمين. وتابعينا بأخبارك.