Consultation Image

الإستشارة 19/04/2025

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فضيلة الشيخ الكريم، أكتب إليكم أطلب رأيكم الشرعي في مسألة تؤرقني وتؤثر على حياتي اليومية. في ظل هذا الانفتاح الكبير على التسويق والعروض التجارية، أصبحت أشعر أنني أشتري أشياء كثيرة لا أحتاجها، فقط بدافع الرغبة اللحظية أو المتعة المؤقتة. أحيانًا أشتري عند التوتر، وأحيانًا عند الفرح، وغالبًا ما أندم لاحقًا.

وقد قرأت كتابًا بعنوان: "أو كلما اشتهيت اشتريت؟"، وهو يتحدث عن أهمية السيطرة على الرغبات الاستهلاكية، وتبني عادات مالية أكثر وعيًا مثل: تأجيل قرار الشراء التفكير في الحاجة الفعلية لا في الرغبة تبسيط الحياة الاستمتاع بما نملك الامتنان للنعم وتجنّب تكديس الممتلكات أو الانجرار وراء العروض التجارية.

وسؤالي هو: ما هو التوجيه الشـرعي في مثل هذه السلوكيات الاستهلاكية؟ هل يُعد الشـراء العشوائي أو التسوّق العاطفي نوعًا من الإسراف أو التبذير؟ وكيف يمكن للمسلم أن يضبط سلوكه المالي بما يرضي الله، خاصة في ظل كثرة المغريات؟

جزاكم الله خيرًا، ونفع الله بكم.

الإجابة 19/04/2025

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أخي السائل الكريم: أحسن الله إليك، وجزاك ربي خير الجزاء على هذا السؤال الذي يكشف عن ضمير حيّ ونفس لوّامة تسعى لإرضاء الله والسموّ فوق نزعات النفس واستهلاكيات العصر.

 

وسؤالك هذا لا يعبّر عن مشكلة فردية فحسب؛ بل هو قضية حضارية ودعوية كبرى، تتعلق بكيفية تربية المسلم لنفسه في زمان طغى فيه الاستهلاك، وتحوّل الإنسان فيه إلى مجرد "مستهلك"، تُستثار رغباته، وتُغذّى شهواته، حتى صار كثير من الناس يعيش ليشتري، لا يشتري ليعيش.

 

ولذا إليك جوابي معنصرًا، مناسبًا للواقع العام والخاص، وذلك في النقاط التالية:

 

أولًا: التوجيه الشرعي في السلوكيات الاستهلاكية

 

لقد جاء الإسلام بمنهج متوازن في المال والإنفاق، يقوم على الاعتدال بين التقتير والتبذير، قال الله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا}، وقال أيضًا في وصف عباد الرحمن -في سورة الفرقان-: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}؛ فالشـراء العشوائي، أو التسوّق بدافع المشاعر العابرة، يُخالف هذا الميزان الرباني؛ لأنَّ صاحبه لا ينفق عن وعي، بل عن هوى عابر، ولا يراعي المآل، بل يرضي لحظة مؤقتة، هذا أولا...

 

ثانيًا: هل يُعد هذا إسرافًا أو تبذيرًا؟

 

نعم، هذا النوع من الشـراء يُعد من صور الإسراف أو التبذير إذا زاد عن الحاجة، أو وقع لمجرد المتعة الفارغة، خاصة إذا ترتب عليه ضيق مالي أو تراكم ديون أو تضييع الحقوق. وقد قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ}، والتبذير كما قال العلماء: صرف المال في غير فائدة، أو فيما لا حاجة له به، أو في حرام، وليس التبذير أن تنفق في الخير، إنما التبذير أن تنفق في غير حق، هذا ثانيًا...

 

ثالثًا: كيف يضبط المسلم سلوكه المالي في ظل كثرة المغريات؟

 

هنا نحتاج إلى تربية دعوية مالية متزنة، تقوم على فهم وظيفة المال، وفلسفة الإسلام في التعامل مع المال، وحقيقة السعادة، وخطر الانغماس في الاستهلاك، وإليك بعض الوصايا العملية:

 

1) النية الصالحة في الإنفاق: اجعل كل نفقة عبادة، كما قال النبي ﷺ: "وفي بُضع أحدكم صدقة"، فإذا كانت الشهوة بالحلال تؤجر عليها، فكيف بإتقان الإنفاق وتوجيه المال فيما ينفع؟

 

2) ربِّ نفسك على معنى الاستخلاف، فالمال أمانة، قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}؛ فأنت مستخلف على المال، لا مالك مطلق له، تُسأل عن كل جنيه ودرهم ودينار ودولار أين أنفقته.

 

3) استحضـر الرقابة والمحاسبة، فمما ثبت واشتهر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع... ومالِه من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه".

 

4) التمييز بين الحاجة والرغبة، فلا تنفق لأنك "تشتهي"، بل أنفق لأنك "تحتاج". قال بعض السلف: "من لم يضبط نفسه عند الرغبة، ذلّ في الإنفاق".

 

5) طبّق قاعدة: (التريث قبل الشراء) اسأل نفسك: هل أحتاج هذا حقًّا؟ أم هي رغبة طارئة؟ انتظر 24 ساعة على الأقل قبل الشراء، خاصة في العروض.

 

6) جاهد نفسك على الاكتفاء والرضا؛ ففي الحديث: "ارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس"، وتأمل كيف عاتب الله بعض المؤمنين على الضعف أمام زينة الحياة: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ}.

 

7) مارس ثقافة الامتنان والقناعة بدل التكديس؛ فالامتنان لما عندك يُطفئ نار المقارنة، ويزرع فيك البركة.

 

8) اجعل للمال وظيفة دعوية، كأن تخصّص من دخلك نصيبًا ثابتًا للصدقة، وأن تشارك أبناءك في شراء كتاب نافع، أو دعم أسرة محتاجة، بدلًا من شراء سلعة استهلاكية لا حاجة لها.

 

9) تذكر السلف وتواضعهم وبساطة حياتهم، حتى إن كثيرًا منهم كان يخاف التنعّم، وكان ابن عمر لا يشتري شيئًا إلا إذا سأل نفسه مرارًا: هل أنا محتاج إليه؟ وهل فيه نفع؟

 

10) لا تكن عبدًا للمنتجات والعروض التجارية، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة..."؛ فالتسوق بلا وعي قد يُسقط الإنسان في عبودية خفية للمظاهر والموضة والسلع.

 

أخي السائل الكريم:

 

ليست القضية في أن تشتري أو لا تشتري، بل في أن تشتري وأنت عبد لله، لا عبدًا لهواك أو للدعاية أو للمجتمع. اضبط استهلاكك بميزان الشرع، وتذكّر أن الزهد ليس تحريم الطيبات، بل عدم تعلق القلب بما في اليد، وأن القناعة ليست ضدّ التمتع المشـروع؛ بل هي سياج له حتى لا يتحول إلى عبودية مادية.

 

وأسأل الله ختامًا أن يرزقك القناعة، وأن يبارك لك في رزقك، وأن يجعل الدنيا في يدك لا في قلبك، وأن يعيننا وإياك على طاعته.

الرابط المختصر :